بعيدا عن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، والإصرار الأمريكي على إبطاء الصعود الصيني في مجال تطوير تكنولوجيا الرقائق الإلكترونية بأي ثمن،
بدأ الصراع بين الجانبين يتخذ شكل الحرب الجيوسياسية، ومحاولة إحداث تحولات في بنية النظام العالمي القائم، من خلال السعي إلى بناء تحالفات إقليمية وسياسية وأمنية جديدة في أكثر من منطقة بالعالم.
وقد بدأ ذلك عمليا عندما قررت واشنطن إقامة تحالف أوكوس مع بريطانيا وأستراليا في محاولة لمحاصرة النفوذ الصيني في المحيطين الهندي والهادئ، فالولايات المتحدة باتت تنظر إلى الصين بوصفها العدو الأول الذي يهدد أمنها القومي، فيما الأخيرة في عهد الرئيس، شي جين بينغ، الذي أنتخب قبل أيام لولاية ثالثة، لا تتوانى عن انتهاج راديكالية سياسية إزاء السياسة الأمريكية ضدها، من خلال توجيه سهام النقد لها، خلافا للسياسة الصينية المحافظة خلال مرحلة الرئيس السابق، هو جينتاو.
من يدقق في معركة الصراع الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين، لابد أن يتوقف عند تطورات مهمة في علاقة دوائر إقليمية مؤثرة مع القطبين الدوليين، وهي تطورات تبدو ساحاتها مناطق الخليج العربي وتركيا وأوكرانيا، ففي منطقة الخليج شكلت القمة العربية - الصينية التي عقدت في السعودية قبل ثلاثة أشهر انعطافة مهمة في العلاقات بين الجانبين على وقع توجه دول الخليج العربي إلى تنوع محاور علاقاتها الدولية بعد عقود من التحالف مع الولايات المتحدة، وفي هذا السياق ينبغي النظر إلى قرار السعودية رفض زيادة كمية انتاج النفط بطلب من الولايات المتحدة في إطار حرب الأخيرة مع روسيا في أوكرانيا، ومن ثم الاتفاق السعودي - الإيراني على إعادة استئناف العلاقات بينهما، وإعادة فتح سفارتي البلدين خلال مدة إقصاها شهران برعاية الصين، وهو ما عد انتصارا سياسيا للصين، إذ للمرة الأولى تتدخل الأخيرة في مثل هذه الوساطات بين دولتين إقليميتين مهمتين، وبما يشكل كل ذلك ضربة للسياسة الأمريكية في غرب آسيا، خاصة أن ذلك جاء بعد قناعة عامة في المنطقة بأن الولايات المتحدة تريد من سياستها في الخليج إستنزاف الجميع دون القيام بأي جهد لحل أزماتها، لاسيما الأزمة اليمنية.
في أزمة أوكرانيا برزت الصين كعمق جيوسياسي لروسيا، وقد استمدت ذلك من الامكانات الكبيرة التي بنتها أولا، ومن ثم من سياسة التحاور مع الجميع، فيما بدت الولايات المتحدة متورطة في الصراع، من خلال مد أوكرانيا بكل أنواع الأسلحة والمعدات، وحشد حلف الناتو خلف أوكرانيا لمواصلة هذا الصراع دون أي اهتمام بالخيار السلمي لحله، وهكذا بدت الولايات ومعها أوروبا وروسيا في حالة إستنزاف متواصل جراء استمرار الحرب الروسية - الأوكرانية، فيما بدت الصين كقوة حوار يؤمل منها القيام بوساطة في المرحلة المقبلة، خاصة في ظل قناعة بقدرة الأطراف المتورطة في الأزمة على مواصلة دورة العنف دون القدرة على تحقيق انتصار حاسم، وفي هذا السياق تأتي زيارة الرئيس الصيني إلى موسكو.
بالتوازي بدا الدور الروسي وكأنه مكمل أو موازي للدور الصيني في مواجهة السياسة الأمريكية، وقد تجلى هذا الأمر بشكل كبير في الدور الذي تقوم به موسكو على خط أنقرة - دمشق، خاصة بعد أن تحول هذا الجهد إلى رباعي ( روسيا – إيران – تركيا – سوريا ) إلى مسار مكمل لمسار آستانة - سوتشي، وعليه فإن هذا المسار الرباعي قد ينتج في الأيام المقبلة ما يشبه تحالف إقليمي في مواجهة الوجود الأمريكي في سوريا والعراق، وهو ما سيشكل ضربة جديدة للسياسة الأمريكية في غربي آسيا إذا ما علمنا أن تركيا التي أنخرطت في هذا الجهد هي حليف تاريخي للولايات المتحدة وعضو معها في حلف الناتو، وبما يعني كل ذلك تزايد نفوذ القوى الأوراسية، لاسيما الصين وروسيا، على حساب النفوذ الأمريكي في هذه المنطقة الحساسة للعلاقات الدولية، وفي مواجهة تراجع هذا النفوذ يبدو أن الولايات المتحدة باتت تعتمد سياسة تفجير الحروب الخلفية في حدائق الصين وروسيا، ولعل هذا ما يفسر الحديث الأمريكي المتكرر عن عملية عسكرية صينية في تايوان على غرار العملية الروسية في أوكرانيا، فضلا عن إثارتها لوضع الأقلية الإيغورية المسلمة في الصين، لكن من الواضح أن الصين التي راكمت امكانات هائلة بدأت تنجح في تحقيق تحولات في بنية العلاقات الدولية القائمة على سياسة القطب، وتضع الجميع أمام معادلة الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب، وفي كل ما سبق تعاظم لدور الصين ونفوذها على حساب الدور والنفوذ الأمريكيين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة