الجهود الدولية لمواجهة التغيرات المناخية على كوكب الأرض، بدأت مع إقرار اتفاقية أممية مختصة عام 1994.
وبعد نحو 20 عاما صاغت 197 دولة حول العالم "فهما عاما" للمشكلة تحت عنوان "اتفاق باريس". أما ترجمة هذا الفهم إلى خطوات عملية، فيبدو أنها قد بدأت من الإمارات نهاية نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2023.
في اليوم الأول من COP28 في دبي، ولد صندوق "الخسائر والأضرار" لتعويض الدول الأكثر تضرراً من التبدلات المناخية التي تتسع رقعتها يوما بعد الآخر. في ذات اللحظة تدفقت مئات ملايين الدولارات إلى الصندوق، لتودع في البنك الدولي من أجل البدء بتطبيق "العدالة المناخية" عالميا، اعتبارا من عام 2024.
والتعويض هو المنطق الأقوى لإقناع الدول بجدية العمل على مواجهة التغير المناخي عالميا؛ فمن استخدم الوقود الأحفوري لعقود طويلة من أجل نهضة اقتصاده، ساهم في الأزمة البيئية أكثر من الذي تأخر عن ركب التطور الصناعي نتيجة عجزه عن إنتاج النفط أو شرائه. وهذه الحقيقة لا تحتمل التأويل أو تقبل التسييس.
الاعتراف بتباين مساهمة الدول في الأزمة المناخية، هو الخطوة الأولى في تغيير مسار العالم نحو وقف نزيف الأرض. فالاعتراف يعني تفهم حق شعوب بالسعي نحو حياة أفضل أدركها آخرون قبلهم. وعدم تحميل هؤلاء الذين بدأوا للتو في تقدمهم أو نهضتهم، مسؤولية تدهور أوضاع الكوكب وارتفاع درجات الحرارة.
وصندوق "الخسائر والأضرار" لا يعني دفع الأموال للدول كي توقف استخدام أشكال الطاقة غير النظيفة. وإنما يعني إيجاد البدائل الواقعية والممكنة أمام الشعوب للاستمرار في خططها للتنمية والتطوير، بعيدا عن سلوكيات قد تعوق الحاجة الماسة لتصويب المعادلات البيئية عالميا، أي "لا ضرر ولا ضرار"، كما يقولون.
الصندوق ليس الإنجاز الوحيد لـCOP28 في يومه الأول. فأجندة المؤتمر بحد ذاتها مثلت خطوة هامة. حيث اتفق المؤتمرون على الحاجة الحقيقية لإعادة صياغة العمل العالمي بشأن المناخ، بعدما تحولت المؤتمرات السنوية المعنية منذ "اتفاق باريس" في عام 2015، لمجرد جلسات لوم وندب واستعطاف وخطابات.
في "مؤتمر دبي" توضع رؤية مناخية عالمية لعامين مقبلين. تبدأ بركن أساسي هو "شفافية" الدول في عرض ما حققته على صعيد مواجهة التغيرات البيئية. ولا تنتهي عند التحديد الدقيق لكلفة التحول البشري من مرحلة الاستهلاك غير المسؤول لموارد كوكب الأرض، إلى مرحلة التصرف المسؤول حيال البيئة والطبيعة.
الأمم المتحدة أبدت تفاؤلا بالنسخة الإماراتية من مؤتمر المناخ، بمجرد موافقة جميع الأطراف المشاركة فيه على أجندة المفاوضات التي تستمر حتى 12 ديسمبر/كانون الأول الجاري. والتفاؤل بنجاح مفاوضات لا تتجاهل التحديات التي تحيط بها، هو أمر واقعي جدا. خاصة إن كانت النقاشات تدور على أرض طوعت المستحيل مرات.
الدكتور سلطان بن أحمد الجابر، وزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة الإماراتي رئيس مؤتمر الأطراف COP28، وضع المحدد الأبرز للحوار البيئي المطلوب عالميا اليوم، عندما قال "إن مواجهة تغير المناخ لا تعني القضاء على شركات الوقود الأحفوري". فهذه الشركات هي جزء أصيل من العمل المنشود، ويمكن لها أن تجد طرقاً عدة لخلق التوازن بين إنتاجها الحالي والأهداف البيئية المنتظرة.
مكاشفة الجابر، تقول إن بحث العالم عن تغيرات بيئية جذرية، لا يجب أن يتجاهل الواقع الراهن، بل عليه أن ينطلق من حقيقة أن الطاقة التقليدية لا تزال إلى الآن المحرك الرئيسي لاقتصادات الدول. والحلم بكوكب يخلو من الانبعاثات الكربونية ولا تتهدده الكوارث، يعني التوفيق بين الحاجة للطاقة النظيفة، والحاجة إلى "تشذيب" إنتاج النفط والفحم وغيرهما بمعايير بيئية مختلفة.
ولا ينطوي الأمر على مبالغة بالنظر إلى أن دولة الإمارات تحتضن "مصدر"، أول مدينة تعيش على الطاقة المتجددة بكل جوانب حياتها. ولا يحتمل الأمر تشكيكا بنوايا المطالبين بالواقعية في رحلة التحول المناخي المنشود، حيث إن المبالغة في المطالب، وتجاهل حيثيات الواقع لم تقدم شيئا منذ "اتفاق باريس" قبل 8 سنوات.
لقد بدأت الإمارات رحلتها نحو الطاقة المتجددة عندما كانت كثير من الدول ترفض حتى الحديث عن تأثير التغير المناخي عالميا. وعندما بذلت أبوظبي كل جهد ممكن لاستضافة الوكالة الدولية للطاقة المتجددة "أيرينا" عام 2009، كانت دول عديدة تحارب فكرة الجلوس حول طاولة لبحث ارتفاع حرارة الأرض.
الأرقام المرعبة التي تصف الأزمة البيئية الراهنة كما أعلنتها الأمم المتحدة مع انطلاق مؤتمر دبي، تقول إن العمل العالمي لمواجهة التغير المناخي يحتاج إلى استراتيجية مختلفة عما جرى خلال الأعوام الماضية، فلا بد لدول أن تساعد غيرها، وتقود الجهود، وتبذل الأموال، وترصد الخبرات والموارد اللازمة لتحقيق الأهداف.
بعض الأرقام تشير إلى أن دولا تؤجل مواجهة المناخ اليوم تتهددها أخطار بيئية كبيرة غدا. وأرقام أخرى تؤكد أن مستقبل البشرية سيكون على المحك بعد عقود على الأكثر. لكن في ذات الوقت، تؤكد التقارير الأممية أن إصلاح ما أفسده الإنسان بيئيا لا زال أمرا ممكنا، ولكنه يحتاج لأكثر من مؤتمر هنا واجتماع هناك.
يقولون "لا خير في قول بلا فعل". ومؤتمر المناخ في دبي اختار أن يدلل على أقواله بأفعال منذ اليوم الأول. صحيح أن المعركة لم تنتهِ بعد، والمفاوضات المستمرة بين الوفود المشاركة حتى الثاني عشر من ديسمبر/كانون الأول الجاري، لن تكون سهلة ويسيرة. لكن كما يقال، "من لا يخطو الخطوة الأولى، لا ولن، يخطو الثانية أبداً".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة