كيف أثر كورونا على مدينة الغزلان اليابانية؟
قطعان الغزلان التي تعيش في حديقة نارا تشرع في العودة إلى حياتها البرية تزامنًا مع انخفاض أعداد السياح جراء انتشار جائحة فيروس كورونا.
بدأت قطعان الغزلان التي تعيش في حديقة نارا في العودة إلى حياتها البرية، تزامنًا مع انخفاض أعداد السياح جراء انتشار جائحة فيروس كورونا.
ذكر موقع "Nippon" الياباني أن البشر ليسوا وحدهم الذين انقلبت أنماط حياتهم رأساً على عقب بسبب اجتياح الفيروس التاجي.
ففي متنزه مدينة نارا، كان على قطعان الغزلان المنتشرة في كل مكان والتي تجوب الأراضي هناك التكيف مع عزوف السياح عن القدوم إلى المتنزه.
فقبل تفشي الفيروس، كان الزوار يدللون الحيوانات بشغف من خلال تقديم المأكولات المحببة لهم كـ ”بسكويت الغزلان“ وغيرها من الأعلاف، إلا أنه مع اقتراب حركة السياحة من التوقف في العاصمة القديمة لليابان، وكذلك في جميع أنحاء البلاد، اختفت هذه المصادر الغذائية التي كانت في المتناول، وعادت الغزلان الجائعة الآن إلى غرائزها الطبيعية في البحث عن الطعام.
وقامت المؤسسة المعنية بالحفاظ على غزلان مدينة نارا، وفريق بحثي من جامعة (هوكايدوا) مؤخرًا بإجراء مسح على حوالي 1,300 غزال تعيش في المتنزه لتحديد كيف أثر الانخفاض المفاجئ في عدد السياح على سلوك الحيوانات.
ففي يونيو/حزيران، قام الباحثون بإحصاء الغزلان في المنطقة المركزية من المتنزه، والتي عادة ما تشهد أعلى تركيز للزوار خلال فترات النهار والليل لتحديد الأعداد التي كانت متواجدة في المنطقة.
وبمقارنة هذه الأرقام مع مسح مماثل تم إجراؤه في شهر يناير/كانون الثاني من العام الحالي، وذلك قبل حظر الحكومة اليابانية لمعظم الزوار من الخارج، خلصوا إلى أنه منذ بداية الوباء، انخفضت نسبة الغزلان الموجودة خلال النهار من 71,9٪ من إجمالي القطيع إلى 50,2٪، وأن النسبة في الليل هي الأخرى قد انخفضت من 56,5٪ إلى 34,9٪.
وعادة في البرية، تقضي الغزلان ساعات الليل في مناطق الغابات وتنتقل إلى المساحات العشبية المفتوحة خلال النهار لتقتات، وكذلك هو الحال بالنسبة للقطعان التي ترعى في متنزه نارا.
إلا أن الدراسات التي أجراها فريق جامعة هوكايدو تشير إلى أنه بمرور الوقت ارتفع عدد الحيوانات التي ظلت ترعى في المناطق العشبية المركزية من المتنزه بشكل ملحوظ حتى بعد حلول الظلام، الأمر الذي يدل على أن الأعلاف التي كان يوفرها السائحون كانت تطغى على الغرائز الطبيعية.
ومع وجود أعداد أقل بكثير لرواد المتنزه، عادت الغزلان إلى عاداتها الليلية السابقة إضافة إلى قضاء وقتٍ أطول في الرعي في المناطق المجاورة للمتنزه.
تخفيف الضغط
وقد أظهرت الدراسة أيضًا أن الغزلان تميل إلى اتباع نمط حياة أبطأ وتستريح أوقات أكثر من ذي قبل. وكانت نسبة الحيوانات التي شوهدت مستلقية في المناطق العشبية خلال شهر يناير/كانون الثاني 19,3٪ أثناء النهار، و 37,9٪ في الليل، وفي يونيو/حزيران، ارتفعت النسب إلى 59,1٪ و 55,2٪ على التوالي. كما تم رصد عدد أكبر بكثير من الغزلان وهي ترعى في سكينة بجانب رفاقها من القطيع.
وعادة ما تعيد الغزلان وهي مستلقية في أوقات راحاتها الطعام الذي ابتلعته مسبقًا من جوفها إلى فمها مرة أخرى، أو تجتره، لمضغه مجددًا، وهي عملية تسمى الاجترار.
وتميل الحيوانات إلى التهام الطعام بسرعة عند الرعي، ويؤدي مضغ الطعام المجتر إلى زيادة تفتيت المواد النباتية بحيث يمكن هضمها بشكل أفضل وامتصاص المزيد من العناصر الغذائية المتوفرة فيها.
وقد شعر الباحثون بالارتياح حيال هذه الزيادة في أعداد الغزلان التي تأخذ كامل وقتها من الراحة لأن الأمر يشير إلى أن الحيوانات أصبحت أقل تعرضًا للضغوط الواقعة عليها جراء التفاعل مع البشر، وهو أمر من الممكن أن يسهم في تحسين الصحة العامة للقطعان في المتنزه.
وبشكل عام، تشير الدراسة إلى أنه نظرًا لأن الوباء يُبقي الزوار في منأًى عن متنزه نارا، فإن الغزلان تعود تدريجياً إلى أسلوب حياة أكثر طبيعية، وبينما ينظر العديد من الخبراء إلى هذا باعتباره تطورًا إيجابيًا، فإنه يثير مخاوف بشأن كيفية تأثيره على الغزلان الذين اعتادوا على التفاعل مع الناس. وقد قام البروفيسور (تاتسوزاوا شيرو)، الذي قاد الفريق البحثي من جامعة هوكايدو، بإلقاء بعض الضوء على مثل هذه الأمورالتي تطرأ أمام الباحثين.
الطبيعة تعرف خبايا البرية
يمكن القول إن الغزلان في متنزه نارا ليست حيوانات برية، بالنظر إلى محيطها الحضري وتفاعلها المتكرر مع البشر، ومع ذلك، يصر البروفيسور (تاتسوزاوا) على أنه نظرًا لكونها أنواع محمية، يتم تركها تفعل كما تمليه عليها غرائزها.
ويشرح قائلاً: ”إن الغزلان حيوانات ترعى بحرية في البراري، ويتجولون كما يشاؤون، ويبحثون عن الطعام عندما يشعرون بذلك، ويتكاثرون بشكل مستقلٍ وبعيدٍ تمامًا عن التدخل البشري“.
وهو يدرك، مع ذلك، أن القطعان أصبحت تعتمد على البشر إلى حد كبير، الأمر الذي أضر بنمط حياتهم البرية، ويشير قائلًا ”هناك أعدادٌ أكبر من الغزلان المعمرة والمريضة أكثر مما تجده عادةً بالنظام البيئي في الغابات“، مضيفًا بأن وجود حيوانات أضعف يزيد من خطر الإصابة بالأمراض للمجموعة بأكملها.
ويرى عودة السلوك الطبيعي كفرصة للحيوانات للتعافي واستعادة النشاط، ومن الأفضل للقطيع أن تستعيد أفراده عافياتهم وقدرتهم على التحمل من تلقاء أنفسهم بدلاً من الاضطرار إلى احتجازهم ووضعهم تحت الإشراف الطبي.
إلا أنه في نهاية المطاف ستعود الأفواج السياحية مجددًا، الأمر الذي سيجعل من عودة الغزلان إلى اعتمادهم على البشر مرة أخرى مسألة محتملة للغاية، إلا إذا اتخذت السلطات تدابير لحماية استقلالية القطعان.
ويقول (تاتسوزاوا): ”هذه مخاطرة حقيقية، ولقد رأينا أيضًا حيوانات تتحرك خارج المتنزه بوتيرة أكبر، مما يزيد من خطر الاحتكاك مع المجتمع البشري، بما في ذلك الأضرار التي لحقت بالحدائق الخاصة من خلال القطعان التي ترعى وحوادث اصطدام المركبات بالغزلان“.
ويشدد على أنه لم يتم التوصل بعد إلى إجماع حول أفضل السبل للتعامل مع هذه القضية، لكنه يشير إلى اتجاهين رئيسيين على مدى الثلاثين عامًا الماضية شكلا العلاقة الحالية بين الغزلان والبشر.
ويشرح قائلاً: ”لقد رأيت الحيوانات تُروَّض مع زيادة أعداد السياح في المتنزه، والزوار اليوم لم يعودوا يحافظون على المسافات الطويلة بينهم وبين الحيوانات، ولكن بدلاً من ذلك يعاملونهم مثل الحيوانات الأليفة“.
ومتنزه نارا نفسه تغير هو الآخر، حيث يذكر (تاتسوزاوا) قائلًا: ”يتم تشغيل المتنزه الآن مثل الحدائق في المناطق الحضرية الأخرى بدلاً من كونها محمية طبيعية كما هو المقصود منها في الأصل، ومرة أخرى، يقع اللوم جزئيًا على التدفق المستمر لأعداد السياح، لكن تزايد أعداد الغزلان أجبر السلطات هي الآخرى على السيطرة على القطعان بشكل مباشر“.
ويقول (تاتسوزاوا) إن التدابير المتبعة مثل التحكم في النظام الغذائي للحيوانات من خلال الأعلاف الصناعية وحتى إعدام الأفراد غير الأصحاء أمر من شأنه أن يساعد في تحسين لياقة القطيع، مما يتيح للغزلان البقاء في حالة أكثر برية، إلا أنه يصر على أن مثل هذه الخطوات سيكون من الصعب الحفاظ عليها على المدى الطويل وأن أي حل سيتطلب تقليل التفاعل مع البشر إلى الحد الأدنى. ويشمل ذلك الحد من إطعام السائحين لتشجيع الغزلان على الاقتيات بمفردها وزيادة كمية النباتات الطبيعية في الحديقة، وإعطاء الحيوانات مأوى للرعي وتربية الصغار دون تدخل من البشر.
ويقول (تاتسوزاوا): ”ستكون عملية تعتمد على التجربة والخطأ للتوصل إلى نهج سليم“، ويحذر من أن بعض المجموعات من الغزلان ستهاجر إلى الأحياء المجاورة، وأن دعم السكان ووعيهم سيكونان حاسمين في صياغة خطة تحمي حياة القطيع مع الحفاظ على عدم الإضرار بالممتلكات إلى الحد الأدنى، ”ولحسن الحظ، لدينا سنوات من التعامل في هذا الشأن يمكننا الاعتماد عليه، كبناء أسوار لحماية الغزلان والحد من حركتها خارج المتنزه“.
وتعد جهود وخبرات أشخاص مثل البروفيسور (تاتسوزاوا) وفريقه أمرٌ جوهريٌ لخلق بيئة مستدامة حيث يمكن للغزلان أن تحيا حياة برية. ويؤكد (تاتسوزاوا) بقوله ”منتزه نارا أحد موقع التراث العالمي، وعلينا نحن البشر واجب الحفاظ على هذه الحيوانات الفريدة والمحمية“.