مشهدان من الماضي يلقيان بظلالهما اليوم على أزمة كورونا، وفيهما من الدروس والعبر ما يفيد الشرق والغرب
هل من الطبيعي أن تشعر الإنسانية بالخوف هذه الأيام، لا سيما في ظل وباء كورونا الذي تفشى مرة واحدة، ومن غير أن يعرف أحد حتى الساعة حقيقة هويته، أو من أين جاء وإلى أين سيذهب؟
أغلب الظن أن هناك حالة أعلى بمراحل عديدة من مسألة الخوف الاعتيادي، فقد بلغ بالبشر الذعر إلى درجة غير مسبوقة، إذ ربما منذ وقت الحرب العالمية الثانية، لم يشعر العالم برمته أنه مهدد بمثل هذه الصورة التي تهدده الآن.
بضعة أسابيع من العزلة، قد جعلت الكوكب الأزرق يستعيد شيئا من عافيته، الأمر الذي يفيد بأن الإنسان يستطيع إذا أراد، مداواة ومعالجة أسقام الكرة الأرضية
وفي كل الأحوال يمكن فهم الخوف الذي صاحب كورونا، بأنه نوع من أنواع الهستيريا الجماعية، وفي سياق علمي يفسر بعض العلماء المشهد بأنه الخوف من زوال الحياة البشرية على الأرض دفعة واحدة، ما يدفع البشر إلى التصرف بأشكال غير عقلانية، وبصورة عشوائية في مواجهة القاتل المجهول، ذلك الذي يهدد بفناء البشر، وبالتالي فإن التأثير النفسي يتزايد بشكل مرعب.
على أن علامة استفهام ينبغي أن يتوقف الجميع أمامها: "هل كورونا هو الوباء الأخطر القادر بالفعل على إفناء الحياة البشرية من على سطح الكرة الأرضية؟
**********
تعي الذاكرة الإنسانية- في حقيقة الحال- العديد من المحطات المفصلية التي شكلت فواصل في سجل الإنسانية الضخم عبر ألفي عام، وربما هناك أحداث لا نعرفها في التاريخ السابق على التدوين، تعرضت فيها الأرض للفناء، وهناك نظريات علمية تقول إن الأرض تتعرض كل نحو ثلاثة عشر ألف عام لحالة من حالات التجديد الكلي بما عليها من كائنات حية، وهي نظرية مختلف عليها، لا سيما في ضوء الاختلاف على عمر الإنسان على وجه البسيطة.
ولعل من يطالع سيرة بعض الحضارات القديمة الغارقة في القدم كحضارة الأزتيك والمايا في أمريكا اللاتينية من جهة، وحضارة المصريين القدماء على ضفاف النيل من ناحية أخرى، عطفا على الحضارة السومرية في بلاد ما بين النهرين، يجد الكثير من القصص البشرية عن نوازل تعد كورونا بالنسبة لها مزحة خفيفة لا وزن لها.
أما المؤمن بالكتب السماوية فيقف طويلا عند طوفان نبي الله نوح، وكيف أنه أهلك كل بشر من غير أسرته، ولهذا فإن الصراع بين الإنسان والكوارث الطبيعية أمر ليس بجديد، ويبدو أن البشرية اكتسبت قدرة على المقاومة، وتحصلت على أنواع من المناعة بعد كل مرة تحتاجها جائحة.
***********
من الطبيعي أن يشعر البعض بحالة من الخوف، بعد الاستماع إلى التصريحات الإعلامية عن الأعداد التي يمكن أن تقضى جراء كورونا، وهنا فربما يعمد البعض إلى ترويج مقولة إن عام 2020 ربما سيكون العام الأسوأ في تاريخ الإنسانية.
غير أن استقراء التاريخ المتوسط منذ القرن الرابع عشر الميلادي وحتى العشرين يوضح لنا أن الأمر ليس على هذا النحو بالمرة، فقد عرفت الإنسانية أوبئة وحروبا أكثر خطورة وإبادة لجنس البشر، ومع ذلك انتصرت الحياة على الموت، وصمدت الشجاعة في وجه الخوف.
على سبيل المثال، عرفت أوروبا مصطلح الموت الأسود، أو الطاعون الأسود في الفترة ما بين 1347 و1352، الذي تسبب في موت ما لا يقل عن ثلث سكان القارة الأوروبية.
أما في أوائل القرن العشرين، وتحديدا عام 1918 فقد عرفت البشرية الأنفلونزا الإسبانية التي أنهت حياة 100 مليون إنسان.
بينما قادت الحرب العالمية الثانية إلى موت ما لا يقل عن ستين مليون نسمة، وقيل سبعون مليونا.
على أن علامة الاستفهام الرئيسية التي يطرحها المؤرخون: "هل كادت البشرية أن تهلك دفعة واحدة، ولمرة وحيدة بعد زمن الطوفان الكبير، الذي انفتحت فيه طاقات السماء وانفجرت ينابيع الغمر العظيم؟".
**********
تحفظ أضابير التاريخ القصة الرهيبة المعروفة اختصارا باسم زمن "طاعون جستنيان" (482-565)، ذلك الإمبراطور الذي كان ملكا على الإمبراطورية البيزنطية، أو الجزء الشرقي من الإمبراطورية الرومانية، وخاصة عاصمتها القسطنطينية، وكذلك ضرب الإمبراطورية الساسانية (إيران وما حولها)، والمدن الساحلية حول البحر الأبيض المتوسط بأكمله، حيث كانت السفن التجارية تؤوي الفئران التي تحمل البراغيث المصابة بالطاعون.
كان "طاعون جستنيان" أحد أكثر الأوبئة فتكا في التاريخ، وقد أدى إلى وفاة ما يقدر بنحو 25 إلى 50 مليون شخص خلال قرنين، فقد امتد من 541 ميلادية وظل يتكرر حتى 750 ميلادية، وتمثل تلك الأرقام ما يعادل 13 إلى 26% من سكان العالم، ومع ذلك لم تتوقف الحياة البشرية، وقد كان السؤال الذي ردده الناس في تلك الأيام ما الذي حدث، وهل كانت نهاية الخليقة قريبة جدا على هذا النحو؟
*************
في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2018، ووسط الأحاديث المخيفة التي تتردد حول العالم عن الحرب الإيكولوجية التي باتت البشرية تعيش في القلب منها، نشرت مجلة "العلوم الأمريكية" الشهيرة تقريرا صادرا عن جامعة هارفارد العريقة في الولايات المتحدة الأمريكية، أشرف عليه مؤرخ القرون الوسطى البروفيسور "مايكل ماكورميك"، الذي يصف لنا مشهد العام الذي اعتبرت فيه البشرية أن الحياة الإنسانية حكما قد انتهت.. ماذا جرى؟
باختصار غير مخل، في السنة العاشرة من حكم الإمبراطور جستنيان العظيم، كانت الحياة تسير على وتيرتها العادية وبما يواكب الإمبراطورية من تطلعات للهيمنة والسيطرة على العالم القديم.
كانت ليلة صيفية كارثية، لم تشرق الشمس بعدها لنحو أربع سنوات ونيف، فقد انتشر رماد كثيف حول الكرة الأرضية حجب ضوء الشمس، ما أدى إلى انخفاض كبير في درجة حرارة الكرة الأرضية، وانهمار أمطار غزيرة، تبعتها ثلوج قاسية، غطت حتى شرق آسيا حيث الصين حاليا.
لم تكن الأمريكتان قد اكتشفتا بعد، غير أن المؤرخين لاحقا سوف يقدر لهم معرفة أخبار ما جرى، لا سيما في القارة الأمريكية الجنوبية، حيث حضارة بشرية كبرى تعرف باسم حضارة "الموتشي"، قد اندثرت من جراء هلاك المحاصيل والجوع الذي عمّ، كما أن الأنهار بدورها كانت قد جفت في أوروبا وبقية أرجاء العالم، وغطاها الجليد، وفي بقية دول العالم توقف عد الأموات وإحصاؤهم، ومع ذلك كانت النهاية بعيدة.
ما الذي حدث في ذلك الزمان، وهل ينبغي أن يكون بمثابة جرس إنذار لعالمنا المعاصر؟
************
الشاهد أن الإنسان المعاصر لا سيما في القرن العشرين تمرد على الطبيعة وسخرها لخدمته، ونسي أن لها قوانينها وحياتها، وأنها عند نقطة زمنية بعينها، يمكنها أن تضعه في خطر داهم، يجبره على إعادة قراءة أوراقها بشكل مغاير.
قبل عام 536 عرفت منطقة القطب الجنوبي انفجارات بركانية ضخمة، أدى رمادها إلى غياب وصول أشعة الشمس إلى الأرض، وبالتالي جرى انقلاب في الطقس مهد للكارثة، وقد استمرت تلك الانفجارات لوقت طويل، ما أطال عمر الأزمة التي جعلت الأرض تعاني قرابة المائة عام، وتعيش مرحلة من الركود الطويل.
على الرغم من ذلك، استعادت الأرض لاحقا قدرتها على الحياة، فقد استقرت درجة حرارة الكرة الأرضية، ما جعل الكثير من الجليد يذوب بعد أن كان يغطي الأرض، وجرت الأنهار بعد أن انقشع الرماد.
ولعل الشيء المثير جدا الذي يعرفه علماء الجيولوجيا، هو أن البراكين على قساوتها، تولد لاحقا بعض النعم من قلب الحمم، فبداية تضحى الأراضي التي انفجر فيها البركان وغيرها مما طالها من أجود الأراضي الزراعية وأخصبها لعقود طوال، وذلك بسبب الطمي الذي خرج من باطن الأرض مع ثورة البركان.
وفي حال "بركان جستنيان"، استقرت معادن كثيرة على الأرض كانت مختلطة بالجليد، استفاد منها البشر في إعادة بناء حياة جديدة، وشيئا فشيئا عادت النباتات للنمو، واستغرق الأمر 100 سنة كي يتخلص كوكب الأرض من آثار الدمار الذي عصف به، وبحسب مؤرخي تلك الحقبة، فإن سنوات من الازدهار والانتعاش عاشها البشر بعد الدمار العظيم.
************
عدة ملاحظات يمكن للمرء أن يخلص إليها من القصة السابقة، في المقدمة منها أن المحنة يمكن أن تضحى منحة، إذا عرف الإنسان كيف يستغلها، والمحن عادة تحمل في باطنها منحا، وما شاهدناه ونشاهده في زمن كورونا يؤكد ذلك.
بداية –وهذه قصة مطولة ربما سنعود إليها لاحقا– تكشف لنا خرائط الأقمار الاصطناعية الملتقطة من الفضاء الخارجي، سواء من خلال أقمار الأوروبيين أو الآسيويين أو الأمريكيين، أن الكرة الأرضية تنفست، إذ انخفضت نسبة التلوث البيئي إلى درجة غير مسبوقة، وأن درجة صفاء مياه الأنهار قد أدهشت المراقبين لها، وهناك خرائط توضح وضع إيطاليا بنحو خاص، كما أن مياه مدن مثل البندقية قد صفت من العكارة التي ملأتها خلال العقود الماضية.
لقد عانت البشرية بشكل كبير من غطرسة الإنسان، ولم يلتفت أحد إلى صرخات الطبيعة، بل تمادى الغي ضد حقيقة انفجار الأرض القائم والقادم، وقد تبدو جولات الأوبئة والأمراض شكلا مكتوما الآن من أشكال اعتراض مسيرة الإنسان، وتاليا قد نرى الأنهار والبحار والأقطاب الجليدية تبعث رسائل للإنسانية لا تصد ولا ترد، في حين أن بضعة أسابيع من العزلة قد جعلت الكوكب الأزرق يستعيد شيئا من عافيته، الأمر الذي يفيد بأن الإنسان يستطيع إذا أراد مداواة ومعالجة أسقام الكرة الأرضية.
***********
هناك دروس تسلمها البشرية بعضها بعضا، ما يعني أن الحضارة وصل وتواصل، وأنه ما من انقطاع أو مناطقية في الإنسانية، أو بينها وبين بعضها بعضا.
مشهدان من الماضي يلقيان بظلالهما اليوم على أزمة كورونا، وفيهما من الدروس والعبر ما يفيد الشرق والغرب، العالم المتقدم القطبي المتنعم، والعالم النامي المتألم.
مدهش أن نقرأ عن أن أول من نادى بفكرة العزل الطبي هو الإمبراطور جستنيان، فبعد تفشي الطاعون في أرجاء الإمبراطورية البيزنطية، حاول جستنيان حماية عاصمته القسطنطينية من خلال سن مجموعة من القوانين التي تهدف إلى عزل كل شخص قادم من أماكن تفشي الوباء، كما يتم تنظيفهم في مراكز خاصة حتى يتم التقليل من احتمالية نقل المرض.
المشهد الثاني، نجده عند ابن سينا (980-1037)، الفيلسوف والطبيب العربي الأشهر، فقد نصح الآسيويين بنوع خاص بمواجهة الطاعون من خلال تقليل الاختلاط، وغسل الأيادي والملابس بالخل، وعدم الخوف، وقال إن المرض عادة يهاجم الجبناء، فإذا أظهرت له قدرتك على المواجهة سيهرب منك مع اتخاذ الإجراءات الطبية اللازمة بالطبع.
لا تخف من الكورونا.. البشرية سوف تستمر.. والأرض قادرة على إعادة النهوض دائما بعد كل كارثة تصيب الإنسان، الأمر الذي يعطينا الأمل في أن الحياة لن تتوقف مهما حصل، إلا حين يشاء الله تعالى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة