لقد كان منع صلاة الجماعة والجمعة قرارا من أولياء الأمور للحفاظ على حياة الناس، وهو حق لهم طبقا لكل المذاهب الإسلامية.
في أزمان الأوبئة العامة الشاملة يحتاج الناس أول ما يحتاجون إلى الدين، إلى العقيدة، إلى الإيمان، إلى كل ما يغذي الروح، ويبعث الأمل، وينشر الطمأنينة، ويمسح بيد حانية على جروح النفس وآلامها، في هذه اللحظات يجب أن يكون خدَّام الأديان في مقدمة الصفوف، ويجب أن يكون علماء الأديان في طليعة المجتمع، ينشرون النور، ويقودون الناس بقوة رسالة الدين، ونفاذيتها العميقة إلى ما يحفظ عليهم حياتهم، ويخرجهم من ضيق اليأس إلى فسحة الأمل. هذه اللحظة النادرة التي يحتاج فيها الناس إلى الدين، إلى الروح، إلى بوابة السماء بعد أن ضاقت عليهم فجاج الأرض.
هذه هي الحالة المثالية النظرية، أما الواقع في العالم العربي والإسلامي فعلى العكس من ذلك تماماً، حيث يتم استخدام الدين من قبل أنصاف العلماء؛ الذين أصبحوا قوة توظف الدين ضد مقاصد الدين ذاته التي على رأسها حفظ النفس الإنسانية، يستخدمون الدين بصورة خرافية، وبعماءة منقطعة النظير في تضييع حياة الناس، وإغلاق أبواب الأمل أمامهم، ووضعهم في حالة من الحرج الديني الذي يقودهم إلى اختيار الموت إذا كان فيه رضا الرب، كما يهمس في آذانهم تجار الدين على الحياة إذا كانت تغضبه.
لقد كان منع صلاة الجماعة والجمعة قراراً من أولياء الأمور للحفاظ على حياة الناس، وهو حق لهم طبقاً لكل المذاهب الإسلامية، وهنا كان يجب على علماء الدين والمتصدرين للمؤسسات الدينية أن يقدموا للناس حلولا تمكنهم من تحقيق العبادة بأفضل الصور التي تسمو بأرواحهم
وأصل هذه الحالة أن العقول المتحكمة في المؤسسات الدينية، والتي تمثل الدين عند بسطاء الناس، قد وضعت الناس في حالة من الحرج، والله يقول في كتابه العزيز "وما جعل عليكم في الدين من حرج"، ومن أولى قواعد الفقه الإسلامي قاعدة "رفع الحرج"، وجوهر هذه الحالة أنهم لم يستطيعوا أن يجدوا من سماحة الدين بدائل متعددة، وواسعة لكل الفروض التي يكون في ممارستها في زمان انتشار الأوبئة خطر على حياة الناس.
لقد كان منع صلاة الجماعة والجمعة قراراً من أولياء الأمور للحفاظ على حياة الناس، وهو حق لهم طبقاً لكل المذاهب الإسلامية، وهنا كان يجب على علماء الدين والمتصدرين للمؤسسات الدينية أن يقدموا للناس حلولا تمكنهم من تحقيق العبادة بأفضل الصور التي تسمو بأرواحهم، ولا تجعلهم يعيشون حالة الطوارئ الدينية التي تشعرهم أنهم قد حرموا من ثواب كبير لأنهم تركوا الجمعة والجماعة.
وهنا قد يظن البعض أن هناك أزمة هيكلية في بنية الفقه الإسلامي تمنع هذا الفقه من تقديم بدائل وحلول تتناسب مع أوقات الأزمات، والحقيقة أن الفقه الإسلامي غني جدا بكل الحلول المتخيلة، ولكن الأزمة الحقيقية التي نعيشها هي أزمة فقهاء، لم يطلعوا على تراث الفقه وتنوعه، أو أنهم اطلعوا ولم يستوعبوا، أو استوعبوا ويخافون على مصالحهم، ولا يريدون أن يخالفوا عقائد العوام، التي تعد مصدرا لقوتهم وسلطانهم، بل وثرواتهم.
وهنا أشير فقط إلى فتوى صدرت في كتاب لواحد من أعظم فقهاء ومحدثي القرن العشرين؛ الحافظ الفقيه الشيخ أحمد بن الصديق الغماري، الذي ينتسب لأكبر أسرة من أهل العلم من أهل المغرب الذين استوطنوا مصر ودفنوا فيها، وكان من أعظم من تتلمذ على أيديهم في مصر فضيلة المفتي السابق الأستاذ الدكتور علي جمعة محمد. ففي عام 1956 أصدر الشيخ أحمد بن الصديق الغماري كتابا بتقديم أخيه الأصغر الشيخ عبدالله، عنوانه "الإقناع بصحة صلاة الجمعة في المنزل خلف المذياع". في مقدمة الكتاب يقول الشيخ عبدالله بن الصديق الغماري: إن أخاه الشيخ أحمد قد وضع هذا الكتاب رداً على فتوى أصدرها الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية وفقيهها حين ورد إليه سؤال من مسلمي الهند الذين يجدون صعوبة في صلاة الجمعة؛ لعدم وجود أئمة أو عدم اكتمال العدد اللازم لإقامة الجمعة، ويسألون هل يجوز صلاة الجمعة خلف المذياع لجماعة من المسلمين، ولو في المسجد الذي لا يتوفر فيه إمام.. وقد أفتى الشيخ المطيعي بعدم الجواز، لأن الفقه المتوارث يشترط شروطا معينة تستوجب أن يكون هناك عدد معين من المصلين؛ يرى بعضهم أنه لا يجب أن يقل عن الأربعين من المقيمين غير المسافرين، وأن يكون هناك مجتمع مستقر، ووجود إمام... إلخ.
وجاء كتاب الشيخ أحمد يتجاوز كل ذلك، ويقول إن كل هذه الشروط ليست واجبة، وإن صلاة الجمعة جوهرها وأصلها هو سماع الخطبة، وبناء على ذلك كانت خلاصة الكتاب الذي جاء في 60 صفحة تقول إنه يجوز للمسلم أن يصلي الجمعة في بيته خلف المذياع. فلماذا لم تصدر فتاوى من مؤسساتنا الدينية بهذا المعنى في هذه الجائحة التي تجتاح العالم.
والأمر نفسه ينطبق على الحج والعمرة، فقد رجع العالم الجليل عبدالله بن المبارك (توفي 181 هجرية - 797 ميلادية) من رحلة الحج حين وجد فتاة في قرية تأخذ دجاجة ميتة من مكب القمامة لتطعم إخوتها الأيتام، فأعطاها كل المال الذي خصصه للحج، ورجع إلى بلدته، ولم يؤدِ الفريضة في تلك السنة؛ لأنه رأى أن إطعام هؤلاء الأيتام أفضل عند الله من الحج. هل ستخرج فتاوى تقول لكل من نوى الحج في هذا العام، تبرع بمصاريف الحج لمن فقدوا أرزاقهم، أو فقدوا عائلهم في جائحة كورونا ولك ثواب الحج وزيادة؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة