ما أثارته تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول "إزعاج" الرافضين تلقي لقاح كورونا، يعكس سجالا قائما في الدول التي تمتلك اللقاح وتستطيع توفيره لمواطنيها.
"ماكرون" لم يتراجع عن تصريحاته تلك، رغم أنها تسبق الانتخابات الرئاسية بنحو ثلاثة أشهر فقط.. وبالتالي فهو لا يخشى "نقمة" الفرنسيين من جراء مضايقته لمن يرفض التطعيم، بقدر ما يخشى غضبهم إنْ فشل في مواجهة الجائحة واضطر إلى الإغلاق وتقييد حركة العمل والسفر وحتى الحريات العامة.
ما يراهن عليه "ماكرون" هو أن الرافضين للتطعيم اليوم قِلة، فقد حصل على اللقاح ما يزيد على تسعين بالمائة من الفرنسيين المؤهلين له.. وهذا بشكل أو بآخر يخلق تساؤلاً حقيقيا بشأن ما إذا كان إحجام البعض عن التطعيم هو استهتار بحق المجتمع والدولة، أم حق في تقرير مصير حياتهم وصحتهم؟
رفض التطعيم يعرّض حياة آخرين للخطر وليس الشخص الممتنع فقط، وهنا يصبح للحرية الفردية ضرر على الحريات العامة وسلامة المجتمع والدولة.
وهذا النقاش حول المسؤولية والحرية في التعامل مع الوباء بات "مهماً جدا" في القارة العجوز، بحسب رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين.
يترك الأطباء للمرضى أحيانا حرية اتخاذ القرار في رفض أو قبول جراحة معينة أو دواء ما، حتى ولو أن الرفض قد يؤدي لوفاتهم أو تداعي حالتهم الصحية.
ولكن هل هذه المقاربة واقعية في التعامل مع لقاح الوباء؟ وماذا لو أن قرار هؤلاء المرضى قد يضر بصحة أفراد عائلاتهم أو محيطهم الاجتماعي؟
يبدو الأمر محسوما لصالح المجتمع على حساب حق فئة صغيرة برفض اللقاح ضد فيروس كورونا.
ولكن ثمة سؤالين رئيسيين في هذا السياق، الأول يتعلق بالكيفية التي يمكن عبرها "إزعاج" الرافضين للتطعيم على حد وصف "ماكرون"، كي يقبلوا باللقاح ويساعدوا الحكومات على احتواء وباء كورونا.. والسؤال الثاني حول عدد التطعيمات التي يتوجب على المرء أن يتلقاها كي "يحصّن" المجتمع من الفيروس، ويحصل من خلالها على حريته في التنقل والتواصل مع الآخرين.
"الإجبار" على التطعيم قد يكون عبر منع الرافضين له من الاختلاط مع الناس في مراكز التسوق والمطاعم والأماكن العامة المغلقة.. ولكن إلى متى؟ وكيف ينفذ ذلك بدقة على امتداد المساحة الجغرافية للدول؟ وماذا يمكن أن يلحق بـ"المعاقبين" من ضرر اجتماعي ونفسي تضطر الدولة للتعامل معه لاحقاً؟
هذه التساؤلات تقودنا للمعضلة الرئيسية المتعلقة بتطور فيروس كورونا ومتحوراته التي يولد واحد منها كل بضعة أشهر، فيخلط الأوراق ويخلق الخوف والقلق من تفشي الوباء ثانية.
الدول ومنظمة الصحة العالمية تقول إن الحل الوحيد يكمن في التطعيم، ولكن أحداً لم يحدد حتى الآن عدد الجرعات الكافية.. لكن في كل الأحوال على الجميع الاستجابة لتعليمات الحكومات لأنها تبقى المسؤولة عن إدارة أمن المجتمعات ككل.
متحورات كورونا تُعقّد مسألة فرض التطعيم على الجميع، ليس فقط لأنها تبدو متجددة، وإنما لأن قوتها في الانتشار والقتل متباينة. فمثلا اتضح أن متحور أوميكرون أسرع من غيره في العدوى، ولكنه أقل عدوانية.. فثمة أشخاص لا تظهر عليهم أعراض المرض ولا يعرفون أنه أصابهم أصلاً.
هذه هي حال الجائحة منذ تفجُّرها قبل أكثر من عامين، هناك من يموت بسببها وآخرون تمر بهم مرور الكرام وكأنها زكام أو نزلة برد.. وربما هذا التباين ما يصعب إقناع البعض بضرورة التطعيم وأهميته كي يحفظوا حياة الآخرين -لا حياتهم هم فقط.
نظريات المؤامرة في اللقاحات وقصص الرقاقات المزروعة فيها لمراقبة الناس أو لتحديد النسل بينهم، تخيف البشر أيضا.. وهذا يتطلب نقاشا ومعالجة من الحكومات بلا شك لتشجيع الناس على إجراءات اللقاح وفوائده للجميع.
صحيح أن الحكومات تحصر تخفيف قواعد الحجر والعزل بالحاصلين على اللقاح، ولكن بالنسبة لغير المطعمين لا يوجد في التخفيف ما يُغري إن كانوا ليسوا بحاجة إليه، أو يمكنهم الحصول على امتيازاته بعد إصابتهم بالفيروس.. فالإصابة برأي كثيرين "أفضل من أي لقاح مصنع للمرض بشرياً".. وهذا تصور بالفعل ربما يجدد الخطر على البشرية كلها.
الأمر الأخير، الذي يجب أن تلتفت إليه الدول الغنية بلقاحاتها، هو الشعوب الفقيرة التي لا يمكنها أن تتحصن بالتطعيم بسبب عدم توافره.. فأولئك يشكلون نواقل للمرض إلى جميع أنحاء العالم.. والخيار اليتيم لمنع وصول عدواهم ومتحوراتهم إليك هو إغلاق الحدود تماماً أمام طيرانهم وسفنهم وسياراتهم.. ما لم تساعدهم حقا بتوفير اللقاحات على المستوى العالمي بشكل عادل وفعال.
في الحادي عشر من يناير الجاري يمر عامان على تسجيل أول وفاة بفيروس كورونا عام 2020.. وطوال العامين الماضيين ينادي العالم بعدالة توزيع اللقاحات بين الشعوب والدول لمحاصرة الوباء.. ومثلما تبحث حكومات بعض الدول عن حلول للوصول بحملات التطعيم لديها إلى نسبة مائة بالمائة، لا بد من سبل لإجبار منتجي اللقاحات على نشر إنتاجهم في العالم دون قيود أو معايير مالية.
هذه المسؤولية يجب أن تُناقش بصوت مسموع في أوروبا وعلى مستوى العالم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة