ملامح المشهد الليبي، الذي تكوّن بعد تأجيل الانتخابات، أوحى بأن الخلافات السياسية بين القوى المحلية عادت للسطح مجددا بعد تجاوزها نسبيا، ووضعها في إطار تنافس انتخابي وحسب.
ترافق ذلك مع غموض بات يلف العملية السياسية برمتها. عودة المبعوثة الأممية ستيفاتي وليامز لمهمتها السابقة في ليبيا أعادت إلى الأذهان صور مخاضات عسيرة مرت بها العملية السياسية في ليبيا.. نجحت "وليامز" في مهمتها السابقة في ترتيب أوراق البيت الليبي عبر عملية دبلوماسية شاقة، ووصلت بها إلى محطات استقرار لا تُنكر.. اليوم تتداخل الأسباب والمسارات المتعلقة بعملية الانتخابات ومستقبلها، فهل تأجيلها كان بسبب قواعد تنظيمها؟
إذا كان الأمر كذلك، فإنه لا يعدو كونه مسألة إجرائية قابلة للتعديل ضمن ما تسمح به القوانين والأنظمة التي تكفل حقوق جميع الأطراف، وتسدُّ بعض الثغرات التي أجّجت الخلافات.
هل تأجيل الانتخابات ناجم عن الخلافات على المرشحين أو على واحد منهم؟
هنا تبدو المسألة أكثر تعقيدا لأسباب كثيرة، منها طبيعة كل مرشح وحاضنته الحزبية والاجتماعية، وتاريخه، ومدى استعداد خصومه لمنازلته عبر صناديق الاقتراع.. بدل أن تكون مدخلاً لمرحلة جديدة لليبيا ولليبيين.
بدا أن تأجيل الانتخابات، التي كانت مقررة في الرابع والعشرين من ديسمبر الماضي، شهرا آخر، كأنه فتح شهوة المعرقلين والمتضررين من إجرائها ومن نتائجها، وذلك بافتعال أحداث وإطلاق مواقف تصب في خانة خلط الأوراق مجددا في الساحة الليبية بعد جهود محلية وإقليمية ودولية مضنية تقاطعت عند ضرورة طي صفحة معاناة الليبيين ونقلهم إلى مرافئ الاستقرار على قواعد راسخة عنوانها صناديق الاقتراع لتكون فيصلا بين مكونات الشعب الليبي بأحزابه وتياراته وقواه المتنوعة.
وهنا ظل تنظيم الإخوان متمترساً خلف خطوطه ولم يفوّت فرصة إلا واقتنصها للتشويش على المساعي الداخلية والخارجية الداعمة لتوجهات ورغبات الشعب الليبي.. لم يترك تنظيم الإخوان صيغة تبريرية إلا وضعها في عجلات القطار الليبي، وتوهم التنظيم أنه الأكثر أحقية بإدارة شؤون البلاد والعباد على عكس الوقائع جميعها، التي برهنت على أنهم تنظيم محدود الحضور والتأثير، خاصة بعد أن تبلورت هياكل القوى الوطنية الليبية وبرزت على الساحة السياسية وانخرطت في عملية التفاعل مع متطلبات مراحل نهوض ليبيا وتجاوزها لجراحها.
رسَم قرار تأجيل الانتخابات علامات استفهام متعددة، منها احتمال تأجيلها إلى مواعيد أخرى، ومنها احتمال إلغائها وعدم إجرائها في المدى المنظور .
إحدى الزوايا الأكثر حدة على طريق إعادة، أو عودة، التوافق بين الأطراف الليبية خلال فترة قصيرة تسبق الموعد المقبل المزمع لإجراء الانتخابات، هي وضع القضية في عهدة مجلس النواب مجددا تماشيا مع المادة 43 من قانون الانتخابات الرئاسية، التي تنص على أن مفوضية الانتخابات "يمكن لها أن تؤجل العملية الانتخابية"، وبعد ذلك يجب على مجلس النواب تحديد موعد جديد لها في غضون 30 يوماً.
أين يكمن التحدي هنا؟
ببساطة يكمن في تشكيلة القوى داخل المجلس وتناقضاتها بوجه عام، وفي الإخوان ونهجهم بشكل خاص، إذ سيجد الإخوان ضالتهم في ممارسة هواية التعطيل، وسيعملون على تأجيج الخلافات واللعب على أوتار التباينات التي ظهرت خلال المرحلة السابقة وتظهيرها كأنها سبب رئيسي في إجهاض عملية الانتخابات في موعدها أساسا.
المهمة أمام مجلس النواب معقدة وصعبة.. ففي مراحل سابقة تمكّن بمساندة إقليمية ودولية من تخطي عثرات ومطبات هائلة.. والتعويل على دوره لقطع الطريق على المتربصين كبير. وتحت أي من العناوين والاحتمالات بات من الضروري على المجتمع الدولي، الذي أسهم بشكل ملموس في صياغة مضمون وشكل قاعدة التوافق الليبي-الليبي خلال السنوات القليلة الفائتة من خلال الحوارات والقرارات واللقاءات داخل ليبيا وخارجها، أن يعيد تفعيل أدواته ونسج خيوط علاقاته مع اللاعبين الإقليميين والمحليين، لقطع الطريق أولا على الساعين للعرقلة –الإخوان- وثانيا من أجل إعادة ثقة الليبيين بأنفسهم في الداخل ودفعهم للإسهام في فرض الاستحقاق الانتخابي على أجندة جميع الأطراف بصفته "استحقاقا وجوديا" يمثل المنعطف الأكثر فائدة واستقرارا للدولة وللمجتمع المنشودَين في ليبيا.
أكثر ما يخشاه الليبيون الذين اكتووا بنار الحرب وغياب الأمن والضغوط الاقتصادية القاسية خلال عقد من الزمن، هو عودة الفوضى إلى بلادهم مرة أخرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة