لو أن إنسانا حملَ دخْل شهر وذهب به إلى طاولة قمار، فإن الانطباع الوحيد الذي سوف يتركه لدى أسرته، هو أنه مستهتر.
قد لا يدرك المقامر ذلك. وقد تغمره مشاعر التحدي والإثارة، إلا أنه لا يغير شيئا في واقع أنه يقامر بما لا تجوز المقامرة به.
ولكن بعض الناس يقامر، ليس بدخل شهر، ولا بدخل عام كامل، وإنما بحياتهم وحياة غيرهم أيضا، دفعة واحدة. ولا تعلم ما الصفة التي يمكن وصفهم بها. حتى "الاستهتار" لا يكفي. و"الانتحار" نفسه، كلمة لا تفي بالحاجة. لأن المنتحرين، إنما ينهون حياتهم هم، لا حياة آخرين معهم.
تصرفٌ من هذا النوع، يتعمد دفع الآخرين إلى حتفهم، تصفه كلمة أخرى. ولكننا إزاء ما نحن فيه، فقد تجردت تلك الكلمة من فاعليتها، حتى أصبح القانون عاجزا معها.
لقد خسرنا حتى الآن حياة أكثر من 5 ملايين إنسان بوباء كورونا. وأصيب أكثر من 268 مليون آخرين، ظل الكثير منهم يعانون أمراضا ومتاعب لاحقة على الإصابة. ولكن عندما تنظر إلى الاحتجاجات في العديد من أرجاء العالم التي تعارض ارتداء الكمامات، أو التي تُحرض ضد أخذ اللقاحات، أو حتى الذين يمتنعون عن تبني الاحتياطات المطلوبة، فسرعان ما سوف تدرك أن المستهترين بحياتهم وحياة غيرهم كثر، وأنهم يسهمون في إطالة أمد المأساة.
ما من سُلطة في الدنيا يمكنها أن تقف على أفواه الناس لتراقب كل ما يفعلون. وارتداء الكمامات إذا كان واحدا من أهم تلك الاحتياطات للحد من تفشي الوباء، فإن ارتداءها أقرب إلى المسؤولية الأخلاقية، منها إلى الإلزام الحكومي. لأنه ما من قوة يمكنها أن تُلزم المرء أن يعي ما يفعل، ما لم يكن الوعي رقيبا ذاتيا عليه.
حتى السهو يتعين ألا يحصل. لأن ذلك يعني أن الرقيب الأخلاقي أخذته الغفوة.
المسألة، في ارتداء الكمامات بين أبناء المجتمع، ليست بالضرورة مسألة خوف من المرض، ولا هي مسألة ثقة مسبقة بالنجاة، تشبه ثقة المقامر بأنه سوف يفوز، ولكنها مسألة حاجز أخلاقي بين المرء وأسرته، وبينه وبين مجتمعه، بل بينه وبين خالقه أيضا. لأن إلحاق الضرر بالنفس، وإلحاق الضرر بالآخرين، كريهة قد لا تُغتفر.
منذ أن عرفنا هذا الوباء، قبل عامين، والعلماء المختصون يقولون إن ارتداء الكمامات، والتباعد الاجتماعي وتطهير اليدين عند كل ملمس من الخارج، هي الإجراءات الثلاثة الأهم للحد من تفشي الوباء.
اللقاحات يمكنها أن توفر الوقاية الذاتية، بنسبة مرتفعة من الموت أو من شدة المرض، إلا أنها لا تمنع من انتقال الفيروس من شخص تلقى اللقاح إلى شخص آخر.
والمعنى، هو أنك إذ تحمي نفسك، فإنك تظل قادرا على إيذاء الآخرين.
ولقد أمكن للكثيرين منا أن يروا أشخاصا يشعرون بالثقة من أنهم بعد تلقي جرعتين من اللقاح أو ثلاث، فقد باتوا محصّنين بما يكفي لكي يبتهجوا بالحياة، وينزعوا عن أكتافهم أحمال الخوف، ويخلعوا الكمامات، ويستأنفوا حياتهم كما كانت من قبل، وكأن شيئا لم يتغير.
وما ذلك إلا وهمٌ جسيم.
المتحورات الجديدة التي ظهرت على الفيروس تؤكد ذلك. وما يزال من غير الواضح، للعلماء ما إذا كان للمتحور الأخير "أوميكرون" أن يلغي جانبا من فاعلية اللقاحات نفسها. وحتى لو ثبت أن اللقاحات ما تزال تحتفظ بقدرتها على الوقاية، فإن قابلية هذا المتحور على التفشي بسرعة تعني أن الذين لم يتمكنوا من تلقي الجرعة الكاملة من اللقاح، أو الذين تلقوها ممن لديهم أمراض أخرى، سوف يعودون ليكونوا عرضة للتهديد من جديد.
الحقيقة الماثلة أمام العيان، هي أن هذا الوباء بقابليته على تحوير مكوناته، ما يزال قادرا على أن يحقق قفزات ربما تكون أخطر، ثم أخطر.
الحقيقة الأخرى، هي أن هذا الوباء يتطور كلما وجد حاضنا له. وأن مخاطره لن تزول قبل أن تعجز متحوراته عن التضحية بالمزيد، وقبل أن يعجز الفيروس عن العثور على حاضن سهل له، أو لا يقاومه.
لا داعي للفزع بطبيعة الحال. لأن الفزع ضار على كل وجه آخر. وتتوفر الآن علاجات يمكنها أن تقي حياة الناس بكفاءة أعلى. إلا أن ذلك لا يرمي المسؤولية الأخلاقية عن كاهل أي أحد.
ليس كل الناس تتوفر لهم القدرة على الانتفاع بما يحققه العلم. ومؤسسات الرعاية الصحية ليست واسعة القدرات إلى ما لا حدود له. ولقد رأينا كيف أنها غرقت في إسبانيا وإيطاليا والبرازيل والمكسيك حتى لم يعد بوسعها أن تستقبل مَن كان يمكن إنقاذهم.
ولكن، هناك بين الناس من لم يخلع الكمامة حتى بعد أن تلقى الجرعتين. ومنهم من يضع كمامتين فوق بعضهما، ليس خوفا من الموت، ولكن خوفا من أن يسألهم ربهم عمن ألحقوا بهم الأذى.
هذا النمط من الوازع الأخلاقي، لو جاز له هو أن يتفشى، لما أمكن لهذا الوباء أن يستمر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة