فتح النافذة لا يعني بالضرورة دخولَ العاصفة، ولا تسلُّلَ الفوضى، ولا تهديدَ الهوية.. لا مكان في العالم الجديد للخائفين.
لمن يتردَّد في الاختبار والمحاولة.. ولمن لا يجرؤ على خوض التحدي.. ولمن لا يقبل المنافسة وشروط الاستعداد لها.. لم تعد الدول تُقاس بجيوشها الجرارة.. ولا بقدرتها على العدوان وإقلاق جيرانها.. هذا عالم الأرقام لا عالم المخاوف والأوهام.. قلعتُك الحقيقية اقتصادٌ حي ينتمي إلى اللحظة الحاضرة من عمر العالم، ومفتوح على التقدم.. قوتك في المرونة والتجديد لا في المحافظة.. في المبادرة والابتكار لا في النوم على حرير حقبات انقضت.. هويتك تتعمَّق بالاغتناء والاحتكاك وقبول التنوع والاختلاف.. مناعتك تترسَّخ بانضمام الدماء الشابة إلى رؤية المستقبل.
إنَّه عالم جديدٌ بمقاييس جديدة.. أول الشروط تعليمٌ ينتمي إلى عصر الثورات العلمية والتكنولوجية المتلاحقة.. انتهى عصر القلاع الموصدة التي تخشى التفاعل مع ما لا يشبهها.. لا بدَّ من جامعة تصقل الإمكانات وتوفّر الفرص وليس فقط الوظائف.. جامعة ترسّخ مهارات وتضيف مهارات.. ولا بدَّ من خريج متمكّن قادر على التعلم المستمر والتجديد الدائم.. لا مكان للطمأنينة المبكرة التي توحي بالتقاعد المبكر.
فتح النافذة يعني حقَّ الفرد أن يتعلم.. وأن تسعفَه قدراته في الحصول على فرصة عمل.. وأن يكون شريكاً منتجاً في صناعة اقتصاد ديناميكي يوفّر حياة لائقة مفتوحة على النجاح والأمل والفرح.. اقتصاد قادر على الدخول في شراكات يقدم فيها ويأخذ منها.
فتح النافذة من ضمن تصوّر واضح يُبعد الأخطار ولا يستجلبها.. تجلس الصين اليومَ في موقع الاقتصاد الثاني في العالم وتثير قلقَ واشنطن من اقتراب "العصر الصيني".. وما كان لبلاد ماوتسي تونغ أن تنعمَ بهذا الموقع لولا رجل اسمه دينغ هسياو بينغ، ابن شرعي للثورة الصينية، لكنَّه عينٌ ساهرة على رصد الضعفات.
أدرك دينغ أن عدم فتح النافذة يعني نهاية النظام وغرق أكبر بلد في العالم في الفقر واليأس.. ولنا أن نتخيل ماذا يمكن أن يعني أن تغرق القارة الصينية في التمزق وتصدير اللاجئين إلى جيرانها والعالم.
وفتح النافذة لم يكن سهلاً.. دائماً هناك "الحرس القديم" الذي يفضّل الإقامة مع القلق على المبادرة إلى خوض الامتحان.. الحرس الذي يخاف من الفكرة المختلفة والأسلوب المغاير والجديد المطروح.. لكن التغيير يحتاج إلى تصور، ويحتاج إلى من يوقد الشعلة ويستقطب الإرادات، ويحتاج إلى التجارب والتصحيح وضخ دم جديد في عروق المجتمع.. يحتاج أيضاً إلى تجاوز جدران ساد الانطباع أنَّها قامت لتبقى إلى الأبد، وإنهاء وصايات كان يُعتقد أنَّه لا يجوز الاقتراب منها أو إزاحتها.. فتح النافذة يحتاج إلى فكرة مقنعة وحلم جاذب ورجل استثنائي.. يحتاج قبل ذلك إلى اقتلاع أشجار الخوف المتجذرة في التراب والنفوس.
في الرياض التي باتت كثيرة المواعيد والألوان والمبادرات تذكرتُ قصة فتح النافذة الصينية.. وتذكرت، كصحافي عربي، قصة المدن مع الخوف ووطأة الاستمرار في تناول أدوية انتهت مدة صلاحيتها.
المدن كائنات حية.. تفرح وتحزن.. تراهق وتندم.. تنضج وتتعقل.. تهرم وتنعقد السنوات تجاعيدَ في وجهها.. تُخفي مشاعرها طويلاً ثم تنفجر فجأة.. تحطّم الرموز وتقتلع إشارات الطرق.. وفي هذه المدن كان الصحافي الجوال يتعرّف على كثيرين.. على أصحاب القرار ومن يكيدون لهم إذا تيسّر الاجتماع بهم.. وكان الصحافي يلتقي في غالبية العواصم مع مواطن عربي شبح اسمه الخوف.. وهو مواطن برتبة جنرال.
لا مبالغة في هذا الكلام.. كانت رائحة الخوف تزورني قبل أن أعود إلى الفندق.. وكانت تشارك في وداعي في المطار بعد رحلة البحث عن حوار أو خبر.. ولم يكن سراً أن رحلة الخوف هذه أتلفت عدداً من الخرائط والكثير من العواصم.. ويمكن القول أيضاً إنَّها أتلفت أجيالاً بكاملها.. الخوف يعتقل المخيلات قبل أن يعتقل أصحابها.. والمخيلة المعتقلة تغرق في ماء المرارات والحقد.. والأب الخائف ينقل إصابتَه إلى أولاده فيشل الخوف أصابعهم وأحلامهم.. يكبر التلامذة في مهد الخوف.. يخافون من زملائهم في الجامعة وفي العمل.. يشعر المواطن دائماً بأن كاتبَ التقارير يرافقه منذ الصباح ولا يغيب عنه حتى في ساعات النوم.. يرصد أحلامه والصور التي تزور ذاكرته ويرفع تقريره إلى الجهة التي لا تنام.
وكانت المدن تخاف من سائح أعزل.. كأنَّها تخشى أن يكشف هشاشتها.. أو أن يبيعَ أسرارها.. وكانت أجهزة الأمن تجند السائقين لكي يُبقوا أعينهم مفتوحة على السياح إذا التقطوا صورة لهذا المكان أو ذاك.. وكان رجالٌ بمسدسات مخفية يتابعون الغرباء بعيون تحاول الإحاطة بالزوار كما الرادارات بالطائرات المتسللة.
والخوف أنواع، خوف الخريطة من الخريطة المجاورة، وخوف الصغير من الكبير، وخوف الفقير من المقتدر، وخوف العاجز عن تحقيق إنجازات تسبغ الشرعية على إقامته.. خوف المدنيين من العسكريين، وخوف العسكريين من العسكريين، وخوف الجهات من جهات أخرى، وخوف الأقليات وأبناء أحزمة الفقر، والخوف من تحول الدستور عجينة يطوِّعها القوي على مزاجه.. التهم الخوفُ المؤسساتِ وبدَّد الميزانيات.. التهم الخوف قدرات المواطن العادي وحقَّه في الابتسام والاستمتاع بالحياة.. التهم الخوف قدراتِ الجامعات ومراكز الأبحاث والحق في طرح الأسئلة والابتكار.. جوَّف الخوف الحياة العامة، وأبقى الانهيار خياراً وحيداً محدقاً بأي تغيير.
أخطر ما ارتكبه الخوف هو اغتيال الأمل.. جريمته الإيحاء بأنَّ الآفاق مسدودة والطرقات مقفلة.. إقفال الآفاق لا يَعِد بغير التطرف والصدام والانفجار.. الميول الانتحارية تُولَد في عتمة الخرائط.. الضوء يساعد على الأمل.. فتح النوافذ يوقظ الطاقات.. يحرّر الأصابع والعقول.
كم يشتهي العربي أن تقتلَ كلُّ عواصمِنا عدواً قديماً اسمه الخوف من العصر والتقدم والانفتاح والانخراط مع العالم.. زرت البوليفارد في الرياض فوجدت المكان غارقاً في نهر من البشر ونهر من الألوان.. إرادة الحياة وإرادة التقدم بلا خوف وبثقة مطلقة.. نهر من الزوار من مختلف الجنسيات.. شركات واستثمارات وأغنيات وسياح ولوحات وانشغال بالبيئة والمناخ.. الطاقات السعودية الشابة تتسابق لبناء تجربة تعني المنطقة والعالم.. والدولة السعودية ساهرة ومبادرة وجريئة والأرقام تؤكد حساباتها.
هذه بلاد فتحت النافذة وصعدت إلى القطار الذاهب نحو المستقبل.. التقدم والنجاح وجودة الحياة.. أطلق محمد بن سلمان شرارة النهضة فتلقَّفها الجيل الشاب ليصنع مصيراً مختلفاً.. من حق كل دولة أن تبحث عن طريقها، لكن الأكيد هو أنَّ التجربة السعودية تؤكد قدرة العربي على التقدم والمنافسة وصناعة مستقبل أفضل لأطفاله.. إنَّ كسرَ الخوف شرطٌ للصعود إلى القطار.. والأمل أفضل مستشار.
نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة