لقد تابعنا أنباء فشل الجولة الأخيرة من مفاوضات فيينا، التي انتهت قبل أيام بمجرد بدء الجولة الجديدة الأسبوع الماضي.
والتزمت الأطراف الأوروبية الصمت وقت إعلان هذا الفشل، فيما وجهت الولايات المتحدة الأمريكية رسائل تهديد ضمنية لإيران.
الجديد هنا ليس فشل المفاوضات، إذ هو الفشل السابع بالجولة الجديدة والثاني مع الإدارة الأمريكية الجديدة، وإنما الجديد في "الكشف" عن هذا الفشل، أي الاعتراف به.. فكل المواقف الإيرانية المصاحبة للمفاوضات كانت تؤكد أن احتمالات النجاح ضئيلة للغاية، سواء خلال جولات التفاوض العلنية التي بدأت مع دخول جو بايدن "البيت الأبيض"، أو في المفاوضات الاستكشافية، التي جرت قبل ذلك سراً.
كل القضايا الخلافية، التي بحثها الجانبان خلال الأشهر الماضية، لا تزال قائمة، بل إن بعضها كان قد تم التوصل بشأنه إلى تفاهمات وتوافقات، كان يمكن إتمامها والانتقال بعدها إلى قضايا أخرى حتى إكمال اتفاق شامل، غير أن سياسة طهران التفاوضية قوّضت الآمال في إبرام اتفاق جديد، حيث أعلنت مراراً وأصرت على هدف المفاوضات الحالية، وهو إحياء الاتفاق النووي الأصلي -اتفاق 2015- وليس إبرام اتفاق جديد بشروط جديدة.
إيران ترفض تماماً مناقشة قضايا أخرى لم تكن مدرجة في بنود الاتفاق الأصلي الموقع عام 2015، بينما هي في الوقت نفسه تمضي قدُماً في انتهاك ذلك الاتفاق، الذي تتفاوض من أجل العودة إليه، وذلك باستمرارها في عملية تخصيب اليورانيوم، وحُجتها الثابتة في ذلك أن واشنطن هي التي انسحبت من الاتفاق وفرضت عقوبات، وبالتالي على واشنطن التراجع عن الانسحاب ورفع العقوبات، بحسب الحُجة الإيرانية.
في المقابل، اتسم الموقف الأمريكي من البداية بالمرونة والقابلية للتعديل.. وبدا واضحاً أن المسؤولين الأمريكيين ليس لديهم تصور نهائي أو استراتيجية واضحة أو حتى سقف تفاوضي ثابت.. وهو ما قرأه الإيرانيون وأبدوا موافقتهم بالتفاوض مع واشنطن على أساسه.
النتيجة أن إيران أخذت "تُلاعب" الأمريكيين.. تُماطل وتفتّت المسارات، ثم تطلب تجميعها مرة أخرى، بينما يتمسك الأمريكيون والأوروبيون بالصبر والمرونة والرغبة في تفويت فرصة التنصُّل من الاتفاق والمضي نحو القنبلة النووية.
وبدلاً من أن ترد إيران على تسامح واشنطن والعواصم الأوروبية مع مماطلاتها، نجدها تراوغ في المفاوضات.. وكان موقفها مفضوحاً فيما قامت به خلال الجولة التفاوضية الأخيرة، التي انتهت قبل أيام، حيث دخل الوفد الإيراني بموقف تفاوضي مختلف، ربما جديد في صياغته، لكنه قديم في مضمونه، حيث قدّم الإيرانيون مقترحَين مكتوبين، تناولوا فيهما ملف رفع العقوبات وملف الأنشطة النووية، وصاغوا كلا منهما على حِدةٍ، لفك الارتباط العضوي بين رفع العقوبات وبين تفعيل الإجراءات والقيود المفترضة على البرنامج النووي الإيراني.
وأياً كانت التفصيلات المتضمَّنة في الاقتراحين الإيرانيين، فإن فكرة الفصل بين المسارين بذاتها كافية، ليس فقط لإحباط الأمريكيين والأوروبيين، لكن أيضاً لتأكيد نهائي بأن إيران لا تريد الوصول بتلك المفاوضات إلى هدفها المفترض، خاصة بعد أن جرى بحث المسارين طوال الجولات التفاوضية السابقة على أساس الربط بينهما، واستهلاك أوقات ممتدة في دراسة سيناريوهات متعددة للتوفيق بين موقف واشنطن، القائم على الرفع التدريجي للعقوبات تزامنا مع استئناف إيران التزاماتها النووية المقررة في الاتفاق الأصلي، مقابل موقف إيران، التي كانت تطالب بأن يتم رفع العقوبات أولاً كحُزمة واحدة، وفيما بين الموقفين حاول الأوروبيون إيجاد صِيغٍ وسيطة وتوافقية، من بينها أن تعود إيران إلى التزاماتها النووية في خطوات متتالية تقترن كل منها بخطوة أولى من جانب واشنطن باتجاه رفع العقوبات.
المهم أن إيران، التي أصرت على أن هدف المفاوضات الحالية ليس صياغة اتفاق نووي جديد بحجة أن الاتفاق الأصلي كافٍ وصالح للعمل دون تعديل، هي نفسها التي تتبنّى اقتراباً مختلفاً يفصل بين المسارات، بما يعني فتح الباب أمام تعديلات وتفريعات استحداث بنود جديدة أو إلغاء أخرى، وهي أيضاً إيران، التي ترد بكل تعنّت على مطالب واشنطن والأوروبيين بضرورة معالجة مسائل ذات صلة بالملف النووي، منها بصفة خاصة الصواريخ البالستية.
خلاصة كل تلك التطورات، أن إيران لا تريد إحداث تقدم فعلي في المفاوضات النووية، وليست معنية لا بالعودة إلى الاتفاق الأصلي، ولا بإبرام اتفاق جديد أياً كانت حدوده أو بنوده.
وكما استغلت طهران السنوات الثلاث الماضية، بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق، في تسريع وتيرة أنشطتها النووية بعيداً عن أعين مراقبي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.. ها هي تماطل وتمدد وقت التفاوض بأقصى ما تستطيع، لتصل ببرنامجها النووي إلى نقطة "اللا عودة" وتجتاز العتبة النووية فعلياً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة