ما من شيء أكثر شيوعا من حالة الهلع التي تصيب مليارات البشر من هذا الوباء، وللهلع مبرراته، ولا ضرورة للمناكفة فيه، فالوباء سريع الانتشار
نحن نفتقد صحتنا ونتفقدها وكأنها شيء عزيز. أعز من زيارة أب وأم، صرنا نحافظ عليهم بالابتعاد عنهم. ونشعر أن هناك حاجة لكي لا نفقد عقولنا بسبب حالة الذعر التي تقدمها البيانات اليومية لمستويات تفشي وباء كورونا وأعداد ضحاياه.
وما من شيء أكثر شيوعا من حالة الهلع التي تصيب مليارات البشر من هذا الوباء. وللهلع مبرراته، ولا ضرورة للمناكفة فيه، فالوباء سريع الانتشار ولئيم، عدا عن أنه قاتل بالفعل. ولقد أصاب حتى الآن نحو أربعة ملايين إنسان توفي منهم نحو 280 ألفا، وخلف أضرارا اقتصادية جسيمة قد تحتاج إلى سنوات لتعويضها.
ولكن قراءة ناضجة للأرقام والحقائق تظل مفيدة في جميع الأحوال، لأنها تساعد في "عقلنة" النظر إلى الأزمة، كما أنها يمكن أن تخفف من حدة التوتر في التعامل مع عواقبها الإنسانية والاقتصادية.
في هذا العالم المضطرب و"غير الطبيعي" الذي نعيش فيه هذه الأيام، أصبح منظر السماء مختلفا. وعادت النجوم لتسطع، لمجرد أن عوادم السيارات كفت عن أن تشكل غيمة تلوث
لقد بات معروفا للجميع أن هذا الوباء قد يصيب الجميع، إلا أن أعراضه لا تظهر إلا على خُمس المصابين بينما الأربعة أخماس الآخرون يمر عليهم الوباء من دون أن يعرفوا بإصابتهم به أصلا. وأعلى نسبة للوفيات تم تسجيلها تبلغ نحو 14% من هذا الخُمس. وهذه النسبة إنما ترتفع بين الأكبر سنا، والذين يعانون من أمراض مسبقة.
ما ليس متداولا، هو أن عدد ضحايا التدخين في العالم أكبر من عدد ضحايا كورونا بسبع مرات على الأقل. فبحسب مركز التوثيق الأمريكي "وورلدميتر" فقد بلغ عدد الوفيات في العالم، لهذا العام، من جراء التدخين نحو 1,7 مليون. وبلغ عدد وفيات المصابين بأمراض السرطان 2.8 مليون إنسان. وهناك 41 مليون مصاب بمرض الإيدز، توفي منهم 588 ألفا. وهناك 588 ألف وفاة حدثت بأمراض على صلة بتناول الكحول. وهناك 343 ألف وفاة بالملاريا. وهناك 375 ألف وفاة بالانتحار (وهو ناجم في الغالب عن أمراض نفسية)، وهناك 170 ألف وفاة بسبب الإنفلونزا الموسمية. وهناك 2.66 مليون طفل دون سن الخامسة توفوا لأمراض مختلفة. وهناك 4.5 مليون وفاة بأمراض معدية أخرى. وهناك 472 الف وفاة بحوادث سيارات.
كورونا ليس أسوأ وباء عرفه تاريخ البشرية أيضا. فالأنفلونزا الإسبانية قتلت في عشرينات القرن الماضي 20 مليون إنسان. وهناك من الأمراض الاجتماعية ما يندى له الجبين، أكثر بكثير من الإصابة بفيروس كورونا. نحن نعيش على كوكب تجري فيه 41 مليون عملية إجهاض، وتوفيت فيه 108 آلاف امرأة أثناء الوضع. وينفق عالمنا الموبوء هذا 140 مليار دولار على تجارة المخدرات.
كل هذه حقائق تريد أن تقول إن كورونا ليس هو الوباء الوحيد، كما أنه ليس هو الأكثر خطرا.
لقد كان العالم يبدو "طبيعيا" أيضا عندما بلغت مستويات التلوث إلى حد أنها أذابت جليد القطب الشمالي، وأدت إلى ثقب الأوزون. بينما تحرق طائراته 1.7 مليون طن من الوقود.
في هذا العالم المضطرب و"غير الطبيعي" الذي نعيش فيه هذه الأيام، أصبح منظر السماء مختلفا. وعادت النجوم لتسطع، لمجرد أن عوادم السيارات كفت عن أن تشكل غيمة تلوث لا تمطر إلا أوكسيد النيتروجين وثاني أوكسيد الكاربون.
المسألة ليست مسألة تغزل أجوف بالطبيعة. ولكنها مسألة حياة بالمعنى الذي يمس كل إنسان. فحتى وقت قريب كانت مدن مثل دلهي في الهند وبكين غير صالحة للعيش من الناحية الفعلية. والناس كانوا يرتدون كمامات لحجب ما أمكن من التلوث، من قبل أن يجدوا أنفسهم مضطرين إليها من جديد لحجب تفشي الفيروس.
الظباء والغزلان وغيرها من الحيوانات البرية التي عادت لتظهر في الشوارع، والأسماك والدلافين التي عادت لتقترب من السواحل، وربما تعتقد الآن إنها عادت لتعيش في عالمها المفقود، ولعلها تشعر بالسعادة عندما تبدأ بالتجول في طرقات وأرياف ظلت لعقود طويلة محرومة منها. وإذا ما أرادت أن تتحدث لبعضها البعض، فلابد أنها تتساءل: ما الذي يجري؟ هل استرد البشر عقولهم؟ أم أننا في حلم ليلة صيف؟
لا تعرف هذه الحيوانات أن سعادتها المؤقتة جاءت من بلاء أصاب البشر، الذين لم يعرفوا هم أنفسهم أنهم كانوا هم البلاء.
إن عاجلا أم آجلا، فان كورونا سيندثر. العلم سوف يلاحقه حتى آخر فيروس. والخسائر الاقتصادية سوف يتم تعويضها بأسرع مما يمكن للمرء أن يتخيل.
خوفي الأشد هو أن يشعر العالم أنه عاد إلى "طبيعته". ساعتها سوف تتساءل الظباء التي عادت لتفر من عالمنا: ما الذي يجري؟ هل غير البشر رأيهم؟ هل فقدوا عقولهم من جديد؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة