إدارة الأزمة أمر غائب عن الذهنية السائدة لكثير من الحكومات والأحزاب والجماعات الثورية،
المماثلة بين القدس والمسجد الأقصى كرمز ديني وحضاري وتاريخي للمسلمين، وبين حركة «حماس» والقضية الفلسطينية كمعضلة سياسية مؤرقة للمنطقة، هي جزء من خلط الأوراق لا يجري فقط في الأذهان فحسب، بل يتعدى ذلك إلى الممارسة في الاستثمار والقراءة السياسية والمواقف في التأييد أو النقد، ذلك أن من البداهة جداً أن نقد سلوك «حماس» السياسي أو العسكري لا يعني القبول بالصلف الإسرائيلي، أو بيع القضية الفلسطينية، أو التنازل عن حق الشعب الفلسطيني الذي تتأكّل العديد من الدول بقضيته، وتستثمر في معاناته. لكنها في المقابل تقيم علاقات وثيقة تجارية وسياحية، بينما ترفع شعارات كبيرة ورنانة للجماهير بهدف استقطابها لملفات الحركة كـ«حماس» وأجندتها الخاصة، أو تلك الأيديولوجية كتيارات المقاومة ومنها «حزب الله»، أو ذلكم «السلطان» الذي بدا في آخر تجلياته في إمبراطوريته الكلامية أن يقلق على المقدسات بعد القدس في استدعاء غير صحيح للمشاعر الدينية في هذا التوقيت، بينما يعجز هو وملالي طهران والأذرع الثورية لها أن يفعلوا شيئاً حقيقياً تجاه القدس، لا على المستوى السياسي والمسارات المعقدة، بسبب صلف إسرائيل وتعنتها نعم، ولكن أيضاً بسبب حالة الانقسام داخل الفصائل الفلسطينية، ومحاولة تسجيل مواقف سياسية خارج «القضية» دعماً لملفات إقليمية أكثر من كونه سلوكاً سياسياً أو عسكرياً قائماً على قراءة للواقع.
وللأسف بات الموضوع أشبه بالحضور الموسمي عبر الشهداء والقتلى في كل مناسبة أو ذكرى أو حدث سياسي، ومن ثم تبدأ مزادات الاستغلال للقضية الفلسطينية؛ البعض للهروب من قمعه السياسي، وأنظمة أخرى لترحيل مشاكلها، وجماعات وتنظيمات للتغطية على حالة الانكشاف حول مشاريعها الانقلابية. وربما اجتمع كل هؤلاء لمناكفة السعودية تحديداً، فعلى الرغم من مكانتها ودورها في معسكر الاعتدال، إلا أنها الدولة الأكثر صرامة في بيان موقفها من القدس، لكن المنتفعين سياسياً يدعون كل الدول التي لديها علاقات بشكل أو بآخر حتى لو كانت من قوى الاعتدال للتركيز على السعودية دون غيرها. وليس الأمر بسبب العلاقة الوثيقة والتحالف مع الولايات المتحدة، فالولايات المتحدة يهرول الجميع للتحالف معها، حتى «حماس» التي كانت سباقة حين كانت الإدارة الديمقراطية في عهد أوباما تعيد طرح مسألة الإسلام السياسي في مقابل الأنظمة السلطوية وفق تصنيفها.
اضطراب «حماس» ومحاولة الاستثمار في الدماء الفلسطينية من قبل دول وزعماء وتيارات، وبالطبع إيران وأذرعها، ساهم في جعل الاهتمام بالقضية الفلسطينية موسمياً أو مع تجدد الأحداث، في حين أن إسرائيل تستغل كل تحول في المنطقة لصالح تعزيز مكانتها لدى العالم الغربي كدولة مستقرة لديها إشكالية مع التطرف.
والحال أن هذا السلوك المجافي للمنطق على المستوى الإعلامي والشعاراتي بات مكشوفاً لدى العقلاء في المنطقة، ولكن هذا الانكشاف للأسف وقع في الخطأ ذاته والخلط بين القدس والقضية الفلسطينية كمسار سياسي يعاني من حالة انسداد، وبين حركة حماس التي باتت تقدم مصالحها الأيديولوجية للأسف على القضية، خصوصاً مع دخول أزمات أخرى في المنطقة منذ سقوط العراق وصولاً إلى الثورات، وإذا شئنا القراءة السياسية بات منطق الأزمة يشكل هويّة وجود لـ«حماس» معرفاً للحركة والأزمة بمعناها السياسي، تتجاوز مفهوم المقاومة الذي تطور في أشكاله وطرائقه، كما أن جانباً منه بات محظوراً في العقلية الغربية، ومرتبطاً بالإرهاب، حتى لو ظل منظوراً له في العالم العربي فعل مقاومة.
اضطراب «حماس» ومحاولة الاستثمار في الدماء الفلسطينية من قبل دول وزعماء وتيارات، وبالطبع إيران وأذرعها، ساهم في جعل الاهتمام بالقضية الفلسطينية موسمياً أو مع تجدد الأحداث، في حين أن إسرائيل تستغل كل تحول في المنطقة لصالح تعزيز مكانتها لدى العالم الغربي كدولة مستقرة لديها إشكالية مع التطرف، وفق تعريفها الذي تحاول أن تسوّقه في كل مناسبة.
خطأ «حماس» التاريخي كان اندفاعها تجاه إغراءات جبهة الممانعة كجزء من تحالفات الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، ليس حول الموقف من فلسطين، وإنما كيفية استثمار الموقف من فلسطين كمحرك أيديولوجي وجماهيري، إضافة إلى هدف «حماس» الإضافي محلياً، وهو الضغط على حركة فتح التي عادة ما تُهمَّش ويُقزَّم دورها التاريخي في هذه المناسبات الموسمية، بل وتُتهم بقائمة طويلة من الأوصاف السلبية المعتادة.
القدس قضية ثابتة للجميع رغم حالة العجز والانسداد السياسي، لكن القضية الفلسطينية من الناحية السياسية ووضعية «حماس» ونقدها، لا سيما في سلوكها تجاه الأزمة في سوريا، وسكوتها عن جرائم النظام، إضافة إلى هرولتها إلى إيران وارتهانها لخيارات تركيا وقطر السياسية؛ رغم موقفها الأكثر ليونة تجاه إسرائيل، يعني أننا أمام أزمة ازدواجية سياسية، وهو الأمر الذي مارسته أيضاً فصائل يسارية وشيوعية سابقاً بالمنطق والأدوات ذاتها في ظروف أخرى، والهدف هو ترحيل أزمات تلك الحركات والتنظيمات الحقيقية في الخروج بتصور واضح إلى استعداء جماهيرها ضد دول هي بوصلة الحل على المستوى السياسي والاقتصادي، كما هو الحال مع السعودية ومصر، ولا يمكن تصور حل عادل للقضية الفلسطينية من دونهما، أو حتى ثقل سياسي للقوى الغربية في التأثير على القضية الفلسطينية متى ما خلقت صيغة حل لا تبدو قريبة.
إدارة الأزمة أمر غائب عن الذهنية السائدة لكثير من الحكومات والأحزاب والجماعات الثورية، أو التي تتبنى شعارات عابرة للقارات، بينما تقف مشلولة وعاجزة حتى عن التلويح بشيء من تلك الشعارات التي تبنتها... والجماهير بدورها باتت رهينة التفكير الرغبوي الحالم الذي تحاول من خلاله مداوة قسوة واقعها الحياتي الخاص، متجاهلة أن أحوالها المتردية جزء من قسوة واقعها العام ومحدودية إمكاناته، ومن هنا أصبح مطلب «الشعاراتي» مطلباً شعبياً يضطر كثيراً من وسائل الإعلام إلى خلق نجوم من هذا النوع، وكانوا شريحة عريضة من المثقفين من نزعات اليسار والقومية في السابق، وبات الآن بعض السياسيين والزعماء يزاحمونهم لأهداف تحشيدية ليس إلا. لاحظوا وجه الشبه بين المنطق والأسلوب ذاته في التأليب ضد السعودية على سبيل المثال في قضية القدس، وفي مواقف الأشخاص والأطراف ذاتها حول تدويل الحرمين.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة