بعد عقد ونيف من تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية، تعود لنسيجها العربي الطبيعي، بقرار وزراء الخارجية العرب في القاهرة، استعدادا لقمة الرياض في 19 مايو/أيار المقبل.
وكما قال الشاعر ابن الوردي: "وعادتْ دمشقٌ فوقَ ما كانَ حسنُها، وأمست عروساً في جمالٍ مجدَّدِ".
لقد أسهمت واقعية دولة الإمارات منذ سنوات، في تمهيد الإعلان عن إعادة سوريا إلى البيت العربي، عبر استشرافها للمستقبل، وقراءتها الحكيمة للمشهد السوري من زاوية إنسانية التوجه.
وأستذكر قراءتي للاستراتيجية الإماراتية بشأن الملف السوري في عدة جوانب، بمقالي (واقعية الإمارات وعودة سوريا للحضن العربي)، بتاريخ 22/3/2023، جاء فيه: "الشق الإنساني وجهود الإغاثة المستمرة جراء زلزال فبراير/شباط، والدعم الاقتصادي المطلوب لإعادة إعمار المناطق السورية المتضررة، والشق الدبلوماسي عبر تفعيل الآليات العربية بهدف إزاحة الخجل السياسي".
كما كان للتحركات السعودية النشطة الأثر البالغ، خصوصا بعد كارثة زلزال فبراير/شباط، بدءا من اجتماعي جدة وعمان (الوزاري التشاوري)، وصولا لاجتماع القاهرة الذي حسم المسألة بهدوء، دون إثارة الخلاف بين الإجماع العربي والدول القليلة الرافضة، ما يعكس تفهماً عربياً لكون الأزمة السورية معقدة، وتحتاج لمسارات زمنية مختلفة.
يتحدث بعض المراقبين عن انتصار الحكومة السورية، واستطاعة الرئيس بشار الأسد البقاء في السلطة، بينما خسرت المعارضة، وبتقديري كمتابع للأحداث، أن من انتصر هو الشعب السوري، كونه المستفيد الأول من حلحلة الأزمة، بينما الخاسر الأكبر هو المليشيات المسلحة والأجندات المشبوهة.
وستعطي عودة دمشق لإطار الجامعة العربية دافعا معنويًا كبيرا، لتسهيل مسارات الجهود الإنسانية وإعادة الإعمار، بينما ستظل طبيعة العلاقات بين الدول العربية وسوريا في إطار ثنائي، بحسب المصالح والتوجهات الوطنية لكل دولة.
لم يتوفر الإجماع العربي بشكل كامل، إلا أن هناك تغييرا شاملا في أولويات التعاطي مع الملف السوري، فلقد تحول التوجه العربي من التعامل مع مسببات الأزمة السورية، التي أفرزت القرار الدولي 2254 إلى التعامل مع تداعياتها الإنسانية المترتبة، مع أهمية ترسيخ مبدأ: الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وأمنها واستقرارها، وازدهار شعبها.
هناك توافق على تجزئة الملف السوري، لأولويات إنسانية وأمنية وسياسية، يتقدمها الجانب الإنساني، لا سيما عودة اللاجئين السوريين بأمان إلى أوطانهم، وتمكين المساعدات الإنسانية للوصول إلى كافة المناطق، بما فيها الخاضعة تحت سيطرة القوى المعارضة، ثم الملفات الأمنية مثل مكافحة الإرهاب وتجار المخدرات، وإخراج المليشيات من الأراضي السورية، ولعل ذلك يكون عبر دعم المؤسسات الأمنية والعسكرية المعنية السورية، ليتسنى لها القدرة على فرض القانون.
وأخيرا، تأجيل التسوية السياسية إلى مراحل لاحقة، حتى يتم تحقيق نتائج إيجابية ملموسة، على الصعيدين الإنساني والأمني.
وصلت سوريا إلى مرحلة حرجة من المآسي، بعد سنوات أشبه بالحرب الأهلية من نوع آخر غير مسبوق، وبقيت رهينة الاستقطابات الإقليمية والدولية، ما أفرز مليشيات مسلحة، لا يهمها غير التكسب وتحقيق مصالح أيديولوجية، تمنع التقدم والتنمية، وما جعل الأزمة أكثر تعقيدا هو ابتعاد نسيجها العربي عنها، ما ترك سوريا وحيدة في وجه بحر من الضغوطات الداخلية والخارجية، في ظل تحديات عالمية هائلة، على إثر تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وتحولات سياسية متغيرة ومتقلبة، وتوازنات تنتقل من المستويات الثابتة إلى الديناميكية، وتكاد تتغير كل يوم بشكل مختلف.
توافقت رؤى وتوجهات أبوظبي والرياض حول أهمية استعادة سوريا للصف العربي، وكان الزلزال المدمر عاملا مساعدا في تكثيف الجهود، ورفع الحرج عن العديد من الدول العربية، فالإنسان أهم بكثير من المواقف السياسية الممكن تغييرها، والشعب السوري بحاجة اليوم إلى البناء الاقتصادي والاجتماعي والإنساني، وإلى العقلانية العربية التي ستضع حياة الإنسان ومعيشته في المقام الأول.
فتحت أبواب العرب تجاه دمشق، بصدور قرار الجامعة العربية 8914، وكشف معها أهمية المراجعة الصادقة للتوجهات العربية بشأن ملفات المنطقة، فعودة سوريا تعد تصحيحا لوضع ضبابي، فلا يمكن لسوريا أن تستقر دون أشقائها العرب، ولا يمكن للمنطقة العربية الاستقرار دون سوريا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة