انحسار الإرهاب في العالم.. بين الواقع والنظرية
خطر التنظيمات الإرهابية في العالم لا يقتصر فقط على الأقطار التي نشأ فيها أو دول أوروبا أو أمريكا، لكنه خطر على الأمن والسلم الدوليين.
هل تتجه قوى الإسلام السياسي في عالمنا العربي إلى الأفول بعد سقوط تنظيم "داعش" الإرهابي في العراق والشام في عام 2017؟ وانحسار هذا التيار الإرهابي في مصر بعد فشله في إدارة شؤون الدولة عقب صعوده لأعلى سلطة تنفيذية في البلاد عام 2012.
وقد أتاحت البيئة السياسية والثقافية التي أنشأها ما سُمي بـ"الربيع العربي" لقوى الإرهاب التمدد في غفلة من الزمان، كما ساعدت قوى إقليمية ودولية تيارات العنف والتمرد والتطرف في الانتشار والتوسع خدمة لمصالحها في المنطقة كمحاولة لتفتيتها.
لا يقتصر خطر التنظيمات المتطرفة في العالم على الأقطار التي نشأ فيها، أو ما زال يعيش فيها بعيداً عن دول أوروبا أو أمريكا التي تقدم دعماً بين الوقت والآخر لهذه التنظيمات، فهذه التنظيمات تمثل خطراً حقيقياً على الأمن والسلم الدوليين.
خطورة تلك التنظيمات عامة على الإنسانية جمعاء، وليست على بعض الأنظمة السياسية فقط، ولذلك نجد سهام هؤلاء المتطرفين ترتد إلى بعض داعميها، وهو ما يفسر كم العمليات الإرهابية التي ضربت أوروبا خلال العامين الماضيين.
انحسار قوى الإرهاب
لا يمكن أن يكون تراجع تنظيم "داعش" ودولته التي ترفع شعاراً لها "باقية وتتمدد"، وإعلان هزيمتها حتى لم يبق لها من الأراضي التي سيطرت عليها وفق أحدث التقارير سوى 1% فقط، وغالباً هذه المساحة عبارة تخوم حدودية ملاصقة للعراق وسوريا يتواجد فيها قيادات "التنظيم"، ومنها ما يقوم بتنفيذ بعض العمليات العسكرية المحدودة، مؤشر حقيقي لانحساره أو حتى انحسار قوى الإسلام السياسي إلا إذا كنّا نتحدث عن التراجع الأمني والعسكري.
لا شك أن استعادة الأراضي التي سيطر عليها تنظيم "داعش" والتي وصلت إلى 95325 كم مربع بنسبة وصلت إلى 51.6% من الأراضي السورية، لم تكن العلامة والدلالة الوحيدة على تراجع قوى الإرهاب رغم أهمية المواجهة الأمنية والعسكرية، حيث لم يتبقى منها لهذا التنظيم سوى 5 آلاف كيلو متر.
والأمر لم يختلف كثيرًا بالنسبة للعراق رغم قوة الدولة في مواجهة الميلشيات المتبقية من التنظيم.
لا أحد يمكن أن ينكر انحسار قوى الإسلام السياسي في العالم على مستوى "التنظيم" و"الحركة"، لكن في الوقت ذاته لا يمكن القبول بهذا الطرح على مستوى "الفكرة" وانتشارها، في ظل الدعم المتواصل لهذه القوى من قبل أنظمة سياسية تستخدمها لمصالح لها فتعطيها قبلة الحياة، وتُصعب من مواجهتها في الوقت نفسه.
يزيد على ذلك الإشكالية الرئيسية في مواجهة الإرهاب والتي تتعلق بعدم وجود تعريف واضح للإرهاب، حتى بات العالم يخلط ما بين الإرهاب والمعارضة وبات العالم نفسه يسمي الإرهابيين معارضة وتارة حركات تمرد، قد يكون هذا الخلط عن عمد وقد يكون عن غير عمد ولكنه يؤدي إلى النتيجة نفسها.
صحيح لا يمكن اختصار قوى الإرهاب في داعش وتنظيم الإخوان الإرهابي الذي يمثل أكبر حركة تمثل قوى الإسلام السياسي في المنطقة، فهناك عشرات الحركات المتطرفة الأخرى، مثل الأذرع الشيعية التي أنشأتها إيران على غرار حزب الله الإرهابي في لبنان ومليشيا الحشد الشعبي في العراق، أو ما تحاول أن تصنعه في اليمن وسوريا كمثال للإرهاب، لكن هذه التنظيمات دليل لخريطة كبيرة رسمتها هذه التنظيمات مع دول إقليمية بمشاركة طهران.
إزاء هذه المنطقة يبدو العالم ضعيفاً أمام قوى الإسلام السياسي، خاصة أن كل دولة تُرتب أولوياتها إزاء مصدر الخطر من هذه التنظيمات، وقد تستخدمهم بعض الدول بشكل مرحلي في معاركها فيؤدي إلى تناميها وانتشارها.
هذا يدفع إلى ضرورة الإسراع في وضع خطة استراتيجية لمواجهة قوى الإرهاب، سواء داخل حدود الدول أو خارجها، خاصة أن خطر التنظيمات المتطرفة غير مرتبط بمكان تواجدها فقط، على أن تكون لهذه الخطة استراتيجية المواجهة بأبعادها المختلفة الأمنية والعسكرية والفكرية معاً.
من المهم قراءة القوى الإرهابية في العالم قراءة صحيحة مع رسم خريطة دقيقة لتواجدها، حيث يتم مواجهة كل التنظيمات المتطرفة دون تميز، وأن تكون المواجهة بكل أبعادها سواء المرتبطة بالتمويل أو التسليح أو الدعم السياسي أو الإيديولوجي، فلا يتم التفريق في المواجهة بين تنظيم «داعش» الإرهابي ومليشيا حزب الله المتطرفة، ولا يتم تأجيل مواجهة المليشيات الإيرانية المتطرفة خارج حدودها وأبرزها فيلق القدس أو حتى الحرس الثوري الإيراني، وهذا ما نطلق عليه "المواجهة الشاملة للإرهاب" سواء السني أو الشيعي والفارسي الذي ضرب المنطقة العربية.
مواجهة قوى الإرهاب في العالم لا بد أن تأخذ أبعاداً استراتيجية، حيث يكون القضاء على قدراته التنظيمية في التجنيد من أولويات المواجهة حتى نقطع الطريق أمام تجنيد مسلحين جدد، وأن تكون المواجهة شاملة حيث لا تنصب على الشكل التنظيمي لقوى الإرهاب ولا قدراته العسكرية، وإنما لا بد أن يمتد للمستوى الإيديولوجي والفكري، مع ضرورة أن يكون للمجتمع الدولي دور في استعادة وتعزيز وحدة واستقلال وكفاءة مؤسسات الدولة الوطنية في العالم العربي، فأي تشويش واضطراب في عاصمة عربية يؤثر في الأخريات تأثيراً يمد الحياة للتنظيمات المتطرفة التي تعمل في مساحات الفوضى.
استراتيجية المواجهة الشاملة
لا يكفي تحقيق هزائم عسكرية للتنظيمات المتطرفة والإرهابية التي نجحت في احتلال أراض مثل تنظيم "داعش"، كما لا يكفي محاصرة "جبهة النصرة" أو "أحرار الشام" والكيانات الإرهابية الأخرى والتي امتدت على طول عواصمنا العربية، إنما لا بد من مواجهة شاملة يكون فيها الحزم العسكري والأمني لا يتعدى 40%، بينما يبقى 60% للمواجهة الفكرية والإيديولوجية التي تقضي على بقايا أفكار هذه التنظيمات التي تنمو من خلالها وتصل لعقول الشباب، فتخلق منهم أمراء وقادة جدد للدم.
لا بد أيضا أن تكون المواجهة مكتملة في إطارها الشامل، وألا يتم الاستغناء عن شكل دون الآخر أو تأجيله، فكل صور المواجهة مهمة سواء الأمنية أو العسكرية أو الفكرية بصورها المتعددة.
وهنا يبدو التنسيق مهم في المواجهة الشاملة، خاصة أن أغلب التنظيمات المتطرفة عابرة للقارات ولها امتدادات في أكثر من عاصمة عربية وغير عربية، وهو ما يتطلب التكاتف في المواجهة، فضلًا عن وجود رؤية موحدة يكون من ثمارها التنسيق حتى يتم القضاء المطلق على أمراء هذه التنظيمات مع تفكيك أفكارها، وتصفية كوادرها التي تشكلت عبر عقود من الزمن، مع تفجير التنظيمات من داخلها بإثارة خلافات تنظيمية وإيديولوجية وفقهية بين قادتها وبين القادة والأتباع، وهذه مساحة لم تنجح فيها أجهزة المخابرات الدولية ولم تستغلها أو تنتبه إليها.
قد يكون انحسار تنظيم "داعش" في العراق والموصل وسقوط تنظيم الإخونجية في مصر وتراجع سلطة وسلطان قوى الإسلام السياسي على الأقل في البلدان التي صعدوا فيها لأعلى قمة السلطة التنفيذية بدعم دولي وإقليمي مبشراً للأمل، ولكنه لا بد أن يكون أملا واقعيا يتم على أساسه قراءة حقيقة هذا الانحسار، وعما إذا كان حقيقياً أم مجرد انحسار شكلي للظاهرة سرعان ما تنجح هذه التنظيمات في العودة من جديد.
وهنا لا بد من التوضيح أن حصار الإرهابيين جسدياً لا يعني القضاء عليهم ولا حتى سياسياً، الصورة الحقيقية والأكثر وضوحاً لانحسار قوى الإسلام السياسي ترتبط بالقدرة على تفكيك أفكارها والنجاح في هذه المهمة من خلال خطة مواجهة شاملة.
المكسب الحقيقي في بحث آليات المواجهة الشاملة التي طرحتها دولًا ذات ثقل كبير مثل مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، فلا يكفي أن تكون هناك نية للمواجهة وأن تكون هناك خطوات في هذا الاتجاه، ولكن يتبع ذلك ترتيب وتنسيق وتبادل للرؤى، ثم الاتفاق على استراتيجية مجمعة، وهو ما حدث على مستوى الدول المذكورة، وليس ذلك فقط ولكن لا بد من إقناع المجتمع الدولي والإقليمي بهذه المواجهة والضغط على الدول التي تُدعم الإرهاب بصورة المختلفة، بدءاً من إيران ومروراً بقطر وتركيا وانتهاء بدول كبرى تقدم دعماً بين الوقت والآخر للتنظيمات المتطرفة في عوالمنا العربية.
العالم العربي أمامه تحديات ترتبط بالتنمية والأخرى ترتبط بمواجهة الإرهاب وضرب قواه البنيوية، فلا يمكن تحقيق التنمية دون مواجهة "فيروس التطرف والإرهاب"، والتفرغ لهذه المعركة يؤدي في النهاية لتحقيق التنمية بصورتها المرجوة، وهذه تحديات مشتركة بين العواصم العربية وهي تتطلب الاجتماع على استراتيجية مواجهة متفق عليها.
التفكيك الأمني والفكري للإرهاب
قد لا تكون خطورة الجماعات المتطرفة فقط في تفكيك تنظيماتها أو ما يمكن أن نسميه بالمواجهة الأمنية والعسكرية، فهناك صور للمواجهة لا بد أن تكون حاضرة معنا في المواجهة أشرنا إليها بالمواجهة الفكرية.
فالخطر يكون أشد في التفكيك الأمني للتنظيمات المتطرفة، فهذا التفكك سوف يؤدي إلى انتشار مسلحي هذه التنظيمات في أكثر من عاصمة، ومن ثم تعمل هذه التنظيمات في هذه العواصم، أو عودة بعض المقاتلين للعواصم التي أتوا منها، فبدلًا من وضع منطقة جغرافية تحت الحيز المرئي والتعامل معها كمثال حالة "داعش" والأراضي التي سيطرت عليها، انتشر الخطر في بقاع كثيرة شاسعة وممتدة، وهو ما يؤدي في النهاية إلى انتشار الفيروس وتفشي الظاهرة بالصورة التي نراها الآن.
وهنا يمكن القول إن ما يراه البعض انحساراً لقوى الإرهاب ننظر إليه بتوجس وتخوف، خاصة أن هذا التفكك حدث لبنية التنظيمات العسكرية وليس بنيتها الفكرية، وهو ما يجعل هذه التنظيمات تعود بتكتيك عسكري جديد تعود للواجهة ولكن بطريقة أكثر شراسة.
بعد قراءة مشهد القوى الإرهابية في العالم، مع قراءة صور المواجهة الأمنية والعسكرية التي انصبت عليها أغلب الجهود الدولية والإقليمية، يظل هناك تخوف مرتبط بعودة هذه القوى التي تتمتع بقدرة فائقة على التغير والتلون، واستخدام تكتيك المواجهة والانسحاب في الوقت نفسه، خاصة أن ظروف نشأة الإرهاب في العالم ما زالت موجودة ومسبباته ما زالت قائمة، ولا تزال هناك دول كبرى تؤيده وتدعمه دون وجود رد فعل دولي على دعم هذه الدول.
كل هذه الأسباب تدفعنا إلى التوقع بعدم غياب ظاهرة "الإرهاب المعولم" على الأقل في الوقت الراهن، وفي الوقت نفسه يفرض تحدياً جديداً للمواجهة، وقراءة نظرية للواقع بعيداً عن واقع النظرية التي تحصر المواجهة في شكلها العاطفي دون الأخذ بآليات أكثر واقعية إزاء هذه المواجهة.
aXA6IDE4LjIyMi4xODIuMjQ5IA==
جزيرة ام اند امز