يرى المتتبع لتطور الحالة الإيرانية، منذ تجسدها في ثورة 1979، مرورا بتحولها إلى دولة تجمع بين سمات الدينية.
متمثلة في "الإسلامية"، وصفات سياسية كـ"الجمهورية"، نموذجا هجينا متناقضا حتى في التعريف والمصطلح، فكلمة "جمهورية" تنفي التخصيص الديني ولا تقبله، لأنها وعاء تتعايش فيه جميع الديانات.
أما الديني، ممثلا في "الإسلامي"، فلن يستطيع أن يوفق بين ما هو سياسي وبين ما هو ديني تحت مبدأ الحلال والحرام.
تناقضات النشأة والتسمية والتأسيس تلك امتدت لسنوات طويلة حتى اعتادها الناس، وإن لم يستسيغوها، كما أنها شغلت عقل الكتاب والمفكرين، وهنا أشير إلى الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل وكتابه، "مدافع آيات الله"، الذي صدر عام 1981، وتناول قصة ما يسمى "الثورة الإسلامية" في إيران، وتحليل أسبابها، ولم يكن هذا الكتاب الأول لـ"هيكل" عن إيران، فقد سبقه كتاب "إيران فوق بركان" عام 1951، وفيه أتيح لـ"هيكل" أن يقوم بعمل العديد من المقابلات مع قيادات الثورة في إيران.
استمر هذا الكتاب مرجعا لفترة طويلة حتى تجاوزته تطورات الأحداث وصراعات الثورة داخليا وخارجيا، ومنذ شهرين تقريبا، صدر كتاب بعنوان "معارك آيات الله" للباحث في معهد الشرق الأوسط بواشنطن "أليكس فاتنكا"، وفي الكتاب تم رصد مسارين اتخذتهما السياسة الإيرانية، الأول يحمل بصمة "الشيخ هاشمي رافسنجاني"، الذي يلقب بـ"صانع الرؤساء وملهم نموذج الجمهورية الإسلامية"، والثاني يحمل بصمة علي خامنئي، المرشد الحالي لإيران، وهو يشير إلى صراع الأجنحة، الذي اشتعل طيلة السنوات الماضية بين التيار المحافظ المتشدد، الذي يمثله "خامنئي" بنفسه، والتيار الإصلاحي المنفتح، ويمثله "رافسنجاني".
صدور الكتاب استبق قرار مجلس صيانة الدستور الأخير بمنع كثير من الأسماء، وغالبيتها من المحسوبين على التيار المحافظ المتشدد، منهم "علي لارجاني، و"أحمدي نجاد" و"عزت الله ضرغامي" وآخرين، من السباق الرئاسي في إيران.
وفي اعتقادي، لو كان الكتاب تأخر في إصداره لما بعد هذا القرار لكان المؤلف غيّر فكرته الأساسية بالكامل، لأن الصراع نفسه تغير، فلم يعد بين تيارين، "إصلاحي ومتشدد"، وإنما صار صراعا بين "متشدد" و"متشدد".
إيران بين "مدافع هيكل" ومعارك "أليكس فاتنكا"، تمثل التحول الجذري بين رحلتين ونموذجين، فنموذج رافسنجاني الإصلاحي لم يبق منه سوى مجرد أسماء لا تملك من أمر نفسها شيئا، ولعل "الثلاثي الإصلاحي الشهير"، مهدي كروبي ومير حسين موسوي ومحمد خاتمي، وما آلت إليه ظروفهم، يكشف حال هذا التيار الإصلاحي.
الأكيد الآن أن الصراع تحوّل إلى داخل البيت المتشدد، وتحديدا إلى عقر دار المرشد، فما سنراه يوم 18 يونيو الجاري ليس انتخابات رئاسية بالمعنى المتعارف عليه، وإنما ترتيبات وهندسات لخلافة "خامنئي" نفسه، أي إنها ترتيبات منصب المرشد وليس منصب الرئيس.
إفساح الطريق أمام إبراهيم رئيسي وإزاحة كل من يشكل خطرا عليه، خصوصا "علي لاريجاني"، يمثل إفساحا بالقدر نفسه لدخول "مجتبى"، الابن الثاني لـ"خامنئي"، ليجلس على كرسي الولاية ويصبح ثالث مرشد لإيران، ليؤكد جواز الوراثة في الولاية شرعيا وسياسيا، كما يردد أنصار هذا التيار.
حين يكون "رئيسي" رئيسا للجمهورية سيتولى مهمة إيصال "مجتبي" للولاية، خصوصا أن معه "الحرس الثوري" وكل الأذرع العسكرية المخابراتية الإيرانية، وبالتالي يتأكد لنا أن ما قاله المرشد مرارا بضرورة دخول عناصر شابة للنظام لم يكن يقصد به رئاسة الجمهورية لأن كل الشباب تم استبعادهم، وإنما المقصود هو منصب المرشد نفسه حين يتولاه شاب في الواحد والخمسين من العمر مثل "مجتبى بن خامنئي".
الغريب أن النموذج الغائب والأهم هو نموذج "الخميني"، ما دام أن الصراع بين تيار "رافسنجاني" وتيار "خامنئي" أفضى إلى هزيمة الأول.. فكيف هو الصراع إذا ما بقي بين الطرفين؟
المشهد الذي يختزل الزمن والأسئلة وحتى الإيجابيات هو مشهد استبعاد "حسن الخميني"، حفيد المؤسس الأول، "الخميني"، من قبل مجلس صيانة الدستور، والذي علّق عليه البعض بأن "خامنئي" يزيح "الخميني".. هو إذن عنوان يختزل الواقع الإيراني بكل تعقيداته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة