لم يبقَ من فكرة الديمقراطية في عصرنا هذا سوى وسيلة الانتخابات التي يمارس فيها المواطنون حقوقهم في اختيار من يدير شؤونهم.
وهذا الحق يتم استخدامه على فترات متباعدة قد تصل إلى أربع سنوات في معظم الدول، وعلى الرغم من الفترات المتباعدة لعملية الانتخابات فإنه قد تتلبس حالة الانتخابات هذه الكثير من رؤساء الدول أو رؤساء الوزراء في النظم البرلمانية؛ فيظلون يديرون دولهم بعقلية الحملات الانتخابية، وليس بعقلية رجل الدولة المسؤول عن حفظ كيانها، واستقرار شعبها، وتأمين مصالحها على المدى البعيد.
تحدث هذه الظاهرة التعيسة التي يمكن أن يطلق عليها ظاهرة الخوف من الانتخابات، أو فوبيا الانتخابات، أو الانتخاباتوفوبيا، وهي نوع من الرهاب النفسي الذي يستحوذ على نوعية معينة من السياسيين المشغولين بمصالحهم الذاتية أكثر من مصالح أوطانهم، وبتحقيق أحلامهم في المجد الشخصي والعظمة الذاتية أكثر من احترام قسم الولاء لدولهم وحفاظهم على مصالحها، وضمان أمنها، وتأمين رفاهية شعبها، هذا النوع من السياسيين سواء رؤساء دول، أو رؤساء وزراء، أو غيرهم، يعيشون طوال فترات توليهم مناصبهم وكأنهم في وسط حملة انتخابية؛ كل ما يشغلهم هو أن تركز الأخبار على إنجازاتهم المتوهمة أو الزائفة، وأن يثيروا من القضايا ما يجعل شعوبهم تلتف حولهم، حتى وإن كانت هذه القضايا تضر بمصالح أوطانهم على المدى البعيد. المهم عندهم أن يحشدوا الرأي العام حولهم، وأن يسحبوه خلفهم حتى وإن كانوا يسيرون نحو الهاوية.
برزت هذه الظاهرة بقوة وتعمّقت مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء المفتوح وما صاحبه من هيمنة الفضائيات على عملية حشد وصناعة الرأي العام فيما عرف بعد ذلك بظاهرة الشعبوية. تلك الظاهرة التي تنتمي لعالم ما بعد الحقيقة؛ حيث لا يكون للحقيقة وزن ولا أهمية، وإنما الوزن الأكبر، والأهمية الأكثر للمعلومة التي تحشد الجماهير، وتحركها بغض النظر عن صدقها، وبغض النظر عن كونها تحقق المصلحة الوطنية على المدى البعيد؛ لأن المهم هنا هو صناعة البطل الشعبوي الذي سيحقق الفوز في الانتخابات المقبلة.
لقد ابتليت العديد من دول العالم الثالث بهذه الظاهرة، خصوصاً تلك الدول التي تتكون من مجموعات عرقية ودينية، أو تشهد ظاهرة حزبية تعددية متشرذمة، تتنافس فيها العديد من الأحزاب السياسية التي لا يستطيع أي منها تحقيق فوز حاسم، وإنما تعتمد العملية السياسية فيها على الائتلافات الحزبية. ومع تعدد الأزمات الاقتصادية سواء لكوارث طبيعية أو جوائح مرضية، أو فشل السياسات الاقتصادية أصبحت الظاهرة الشعبوية هذه تسعى لخلق أعداء خارجيين لصرف انتباه المجتمع عن الفشل الحكومي، وفي الوقت نفسه حشده خلف عواطف وطنية مصطنعة خلقتها النخبة الحاكمة مستغلة الحالة الشعبوية وموجهة إياها لأهداف انتخابية.
هذه الظاهرة تعيد التذكير بما سبق أن كتبته في التفرقة بين رجل السياسة ورجل الدولة، لأن هؤلاء القادة الشعبيين هم رجال سياسة من طراز خاص، ولكنهم ليسوا رجال دولة بأي معنى. ورجل السياسة هو شخص ماهر في تحريك الجماهير، وحشدهم خلف حزبه، أو جماعته، أو طائفته، وهو يجيد النقد وإظهار العيوب، ويملك مهارات عالية في الخطابة والبلاغة والتهييج. في جوهره يعمل لتحقيق مصالح حزبه، أو جماعته، أو مصالحه الشخصية، أو كل هذه المصالح معاً. رجل السياسة يكون بارعاً في المناورة، والتفاوض واللعب بـ"البيضة والحجر" – كما يقول المثل الشعبي- فهو مناور عظيم، ولكن لا تحد مناوراته إلا مصالحه، أو مصالح حزبه وجماعته، لذلك يتحالف مع المتناقضين حسب مصالحه، ولا يكترث كثيراً إلا بالنجاحات المؤقتة، ولا تعنية الخطط طويلة الأمد، فكل هدفه تحقيق النجاح الذي يحقق المصالح التي يسعى لتحقيقها، حتى وإن قاد ذلك إلى مشاكل مستقبلية هائلة لدولته وشعبه.
ورجل الدولة يختلف كثيراً، بل جذرياً عن رجل السياسة. رجل الدولة هو رجل السياسة الذي أتقن فنون السياسة، ووظفها لخدمة النفع والصالح العام، هو من يضع نصب عينيه مصالح دولته، وأمنها القومي، ويعمل لشعبها، كل شعبها؛ من كان ضده، ومن كان معه، من ينتمي لدينه، ومن يكفر به، من ينتمي لطائفته، ومن يعاديها، ومن ينتمي لعرقه، ومن يتعالى عليه. رجل الدول يؤمن بالدولة والوطن والشعب كل الشعب، يسخر كل قدراته وإمكانياته لحماية مصالح دولته، والحفاظ على أمنها وتقدمها وازدهارها. رجل الدولة هو رجل السياسة مضافاً إليه كل القيم العليا للدولة، وكل المثل العظمى للسياسة، وكل المعايير المعتبرة للقانون.
الأمم تنهض برجال الدولة، والأحزاب تنجح برجال السياسة، والحكومات تحتاج إلى الاثنين معاً؛ خصوصاً في الدول التي تتبع نظام المنافسة الحزبية، والتعددية الديمقراطية، ولكن الحاجة أكثر لرجال الدولة، والاستدامة السياسية والتنموية تتوقف على رجال الدولة، لذلك نجد في الديمقراطيات الغربية عملية تبادل الأدوار مذهلة، ففي فترات الانتخابات يظهر رجل السياسة، وعندما يصل إلى سدة الحكم يصبح رجل دولة. أما في العديد من دول العالم الثالث خصوصاً التي تشهد صراعات أهلية متنوعة، لا نجد إلا رجال السياسة، ويغيب عنها رجال الدولة، لأن الحالة السياسية فيها هي حملة انتخابية شعبوية مستمرة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة