الأحداث المتسارعة التي تدور في العالم وما يواجهه الغرب، خاصة من أفكار وليدة، جعل اليمين المتطرف يتقدم بخطوات أكثر ثقة للانتخابات.
تمايلت اللافتات ضاحكة لخيوط شمس الحرية والتجديد، رافعة عبارات تعكس أسمى معاني الإنسانية، مثل «ليست قابلة للتفرقة»، وهو مطلب وحقيقة تعكس حالة يعيشها المجتمع الألماني، برزت باحتشاد ربع مليون متظاهر في شوارع العاصمة الألمانية برلين، قبل أقل من أسبوعين، نبذاً واستنكاراً للعنصرية التي تعكسها سياسة اليمين المتطرف.
نجح اليمين المتطرف في استخدام سلعة الخوف والقلق من المستقبل، وأهمل معاني الحرية والاندماج والتعايش السلمي الحضاري القائم على التسامح والتكاتف بين مكونات المجتمع كافة، ما أدى لاستعطاف وتجاوب عالٍ من الناخبين
ربما في هذه الحال سيكون المكيال الراجح منطقياً، من نصيب من جعل القضايا الإنسانية هدفه الأبدي، في ظل تأجج المشاعر المساندة للإنسانية، في دولة تعتبر المستقبل الأكبر للاجئين أوروبياً، ساعياً لصناعة مطرقة العدالة في وجه عروق العنصرية، ومعززاً لحقوق مكونات المجتمع كافة. وهنا نقف مذعنين للدهشة، متسائلين عن موقع اليمين المتطرف من الإعراب!
صراعات متباينة الدوافع والغايات، بين أحزاب الحكومة الألمانية، يوجه الجميع سهامها نحو التغيير، سعياً لحصاد الأهداف الموضوعة، مراعية تنوع رسائلها لتشمل أصحاب الاهتمامات السياسية والدينية والاقتصادية، ومعلية أصوات أبواقها، منادية بأهداف تتمايل لها عقول وقلوب الناخبين، رغم احتمالية سعيها نحو تحقيق مضامين مبطنة تتعدى حروف وكلمات البرنامج الانتخابي.
وبين هذا وذاك يحاول اليمين المتطرف أن يفرض نفسه، وبكل ما أوتي من قوة، مسخراً منابره الإعلامية، ومفرزاً أفكاره عبر تقارير منظمات غير حكومية ومعاهد زائفة لاستقراء الرأي والأخبار. ومن جهة أخرى يتخذ من فتح الملفات القديمة منفذاً آخر لإثبات استحقاق اكتساحه العملية الانتخابية، إيذاناً بدق ناقوس الخطر، برفع منسوب الكراهية والخوف تجاه المهاجرين من جهة، والخطر المحيط بصورة وسمعة ألمانيا من جهة أخرى، لا سيما أنها تجتهد لتتوج مدينة كيمينتس عاصمة للثقافة الأوروبية.
ويبدو أن حزب اليمين المتطرف رفع قامته واثق الخطى، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبلوغ أحزاب يمينية رئاسة حكومات متعددة، كالنمسا وهنغاريا وإيطاليا، إضافة للتمدد في البرلمانات والمجالس الجهوية الأوروبية، إذ كان لـ«البريكسيت» دور قوي بظهور الصراعات الفلسفية بين تيار اليمين المحافظ والتيار المنفتح الداعم للوحدة والمصالح الأوروبية.
مما لا شك فيه أن قرع جرس الإفلاس لبنك «ليمان برادرز» كان بمثابة التنبيه الأول لضرورة التغيير، ولفت الأنظار لأعراض المرض في الجسد الاقتصادي الألماني، والذي تُبنى عليه معالجة هيكل المشرع السياسي لمحاكاة احتياجات تحول أولوياته، خاصة مع وجود تصدعات بين أحزاب الحكومة. وهذا ما أكدته ميركل حين صرحت بأن الناخبين يعيشون حالة من الملل مع الطبقة السياسية، تطلعاً لتعزيز الثقة باعتبارها مكوناً أساسياً، أضف إلى ذلك بروز نخبة سياسية أوروبية على درجة من التأثير والفاعلية، أمثال ماتيو رينزي وغْريللُو، أو تزايد أعداد المصوتين على مارين لوبين في فرنسا، أو خيرت فيلدرز بهولندا، أو نايجل فراج ببريطانيا وغيرهم.
كما أن الأحداث المتسارعة التي تدور في العالم وما يواجهه الغرب خاصة من أفكار وليدة جعل اليمين المتطرف يتقدم بخطوات أكثر ثقة لانتخابات (مايو 2019)، إذ يستند على الصورة النمطية للإسلام والمسلمين في الغرب، مفرغاً القضية من حيثياتها، ومطوعاً الأحداث لخدمة مصالحه، فقد نجح اليمين المتطرف في استخدام سلعة الخوف والقلق من المستقبل، وأهمل معاني الحرية والاندماج والتعايش السلمي الحضاري القائم على التسامح والتكاتف بين مكونات المجتمع كافة، ما أدى لاستعطاف وتجاوب عالٍ من الناخبين.
ومن جهة أخرى، فقد بدا ما يخطط له اليمين المتطرف أمراً صعب المنال، لكثرة الخلافات التي تبعت اجتماعات الصقور، والتي يطال مضمونها الضرب بالإيديولوجية اليمينية، والتعارض مع عامل السيادة الوطنية.
كما يطفو على السطح الأسلوب الذي ينتهجه اليمين المتطرف في بث أهدافه سعياً لتحقيقها، جاعلاً من ملفات مترهلة سيدة الموقف، ومكثفاً من مفردات بوصلته حول الإرهاب و«الترهيب»، على الرغم من أن وهج هذه الكلمة لاقى تكثيفاً مفاهيمياً في الآونة الأخيرة، فما الحاجة للحديث عن قضية المهاجرين وسياسة الموانئ المغلقة بعد انخفاض ملحوظ أثبتته الإحصائيات بمعدلات الجريمة وأعداد النزلاء المهاجرين في السجون الإيطالية وأعداد المهاجرين غير الشرعيين؟
إن النسبة التي حققها اليمين المتطرف السويدي في الانتخابات الأخيرة تعد فعلاً مدعاة للدهشة، خاصة إذا قورنت بالمعدلات التي حصل عليها الحزب الاشتراكي الديمقراطي، المعروف بإنجازاته الاقتصادية في مجال الرفاه الاجتماعي.
وربما الأخطر من ذلك، قدرة أحزاب اليمين المتطرف الأوروبي على فرض صورة الخوف والكراهية وتعميمها، وهنا يصرح المحللون السياسيون بقراءات مستقبلية مبنية على النتائج، تجعل حبس الأنفاس سيد الموقف، مع تحديق جميع مكونات المجتمع الألماني في الصورة الممكنة حين يحكم اليمين المتطرف قبضته سياسياً، خاصة في ظل الائتلاف الهش الذي يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، ائتلاف «سيدة السياسة السخية للمهاجرين» تشاركاً مع الرئيس الفرنسي «القلق من جانب حكومته».
وهنا تكمن الحبكة التي نجحت حقاً في شد أنظار المتلقين كافة، ويجاب عن تساؤلاتها في الانتخابات المقبلة، فمن سيكون صاحب العقل الفولاذي الذي سيمثل الكفة الراجحة، متخطياً زوابع صراع التيارات السياسية الأوروبية، وموازناً بين السياسي والديني والفكري والإعلامي دون الاصطدام بأحدها؟
نقلا عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة