الإخوان يرون إمكانية العمل على الوصول إلى السلطة في أي بلد توفرت فيه الشروط الذاتية والموضوعية لتحقيق "التمكين".
إن المتتبع لتطور الظاهرة الإخوانية منذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين سنة 1928، يتولد لديه اليقين السياسي بكون أدبيات هذه الجماعة واستراتيجياتها للوصول إلى السلطة لم تؤمن يوما ما بالمعطى الديمقراطي كأساس جوهري لتنظيم اللعبة السياسية بين الفرقاء السياسيين.
في هذا السياق، سجلنا، من خلال دراستنا المعمقة للبنية السلوكية لتنظيمات الإسلام السياسي، تلاعب الإخوان المسلمين بمفهوم الديمقراطية حسب السياقات التاريخية للصراع وحسب موقعهم من اللعبة السياسية ومن دواليب الحكم.
حاول الإخوان المسلمون الدخول في اللعبة السياسية وخوض غمار المنافسة الانتخابية؛ للوصول إلى الحكم، إلا أنهم كانت تنقصهم التقعيدات الشرعية التي تصوغ لهم المشاركة في منظومة الممارسة الديمقراطية رغم اعتقادهم بعدم ملاءمتها لمنطوق الشريعة الإسلامية
وهنا نسجل قبول التيار الإخواني بمبادئ اللعبة السياسية كمدخل ضروري واستراتيجي للتسلق التدريجي في سلم الارتقاء السياسي، ومواكبة تكتيكات الانتشار الجماهيري، والاختراق المؤسساتي، ومحاولة التحكم في مفاصل الدولة، مع التعبير عن براجماتية مرنة في تعامله مع القيادات السياسية ورأس الدولة في جميع المجتمعات التي وجدوا لهم فيها موطئ قدم.
وقد حاول الإخوان المسلمون الدخول في اللعبة السياسية وخوض غمار المنافسة الانتخابية للوصول إلى الحكم، إلا أنهم كانت تنقصهم التقعيدات الشرعية التي تصوغ لهم المشاركة في منظومة الممارسة الديمقراطية، رغم اعتقادهم بعدم ملاءمتها لمنطوق الشريعة الإسلامية.
ورغم أن مؤسس الجماعة حسن البنا "أفتى" لأتباعه بالانخراط في العملية السياسية، بل ترشح هو فعليا للانتخابات التشريعية عن دائرة الإسماعيلية، إلا أننا لم نعثر في قراءتنا لأدبيات حسن البنا، عن تأصيلات فقهية للمشاركة السياسية والقبول بقواعد الممارسة الديمقراطية.
وأعتقد أن أهم من أصّل للعمل السياسي عند تنظيمات الإسلام السياسي هما أبو الأعلى المودودي وسيد قطب.
إن الفكر المودودي يؤيّد فكرة الاحتكام إلى الديمقراطية كآلية لاختيار الحاكم، وكذا من ينوب عنه في تسيير الشأن العام. غير أن هذه الديمقراطية لا يجب أن تفهم بمعناها الغربي الليبرالي الضيق، وإنما هي الديمقراطية الانتخابية التي تفرز الخيار الشعبي المطلوب بمعنى: ما هي هوية الدولة التي يريدها الشعب؟
وفي هذا الصدد يقول المودودي: "أما كيف يتأتى هذا التغيير؟ فليس له من سبيل في نظام ديمقراطي، إلا خوض معارك الانتخابات، وذلك أن نربي الرأي العام في البلاد، ونغير مقياس الناس في انتخابهم لممثليهم، ونصلح طرق الانتخابات ونطهرها من اللصوصية والغش والتزوير، ثم نسلم مقاليد الحكم والسلطة إلى رجال صالحين، يحبون أن ينهضوا بنظام البلاد على أسس الإسلام الخالص".
ويرى المودودي أن كل من آمن باللعبة الديمقراطية بمفهومها الغربي وأسهم في بلورتها وجعلها "بدعة" للخلق، فإنه ولا شكّ أتى من الشركيات ما يخرجه من دين الإسلام؛ لكونه أنكر معلوما من الدين بالضرورة، فيقول: "إذا سبرت غورها (الديمقراطية) وأمعنت النظر في دخائلها علمت أن هذا هو الداء العضال الذي أصيبت به أمريكا وإنجلترا وسائر البلاد التي تدعي اليوم بأنها جنة للديمقراطية ومأوى لها" .
على هذا الأساس يكفر المودودي بهذه الديمقراطية ويتبرأ منها بعبارات صريحة وبيّنة: "هذه خصائص الديمقراطية وأنت ترى أنها ليست من الإسلام في شيء".
أما سيد قطب فقد أصل لفكرة خبيثة يعتبرها الإخوان الأساس العقدي للمشاركة السياسية، ومحاولة الوصول إلى السلطة، ومن ثم الانقلاب على باقي الشركاء في العملية السياسية. لقد وجد سيد قطب في قصة سيدنا يوسف مبررا شرعيا لإمكانية المشاركة في الحكومة "الكافرة" في ظل غياب دولة الإسلام التي يصر سيد قطب على أنها غير موجودة البتة، وأن الإسلام انقطع عن الوجود، حيث "غابت الأمة المسلمة عن "الوجود" وعن "الشهود" دهرًا طويلاً. وقد تولت قيادة البشرية أفكار أخرى وأمم أخرى، وتصورات أخرى وأوضاع أخرى فترة طويلة، وبخاصة أن ما يسمى "العالم الإسلامي" يكاد يكون عاطلاً من كل هذه الزينة".
ويستند سيد قطب على ما جاء في الآية 55 من سورة يوسف، حيث يقول جل وعلا: "قال اجعلني على خزائنِ الأرض إنّي حفيظٌ عليم"؛ ليبرهن على أن ما قام به سيدنا يوسف هو حقيقة ما يجب أن تقوم به التنظيمات الإسلامية على اعتبار أن حديث "إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه" لا يمكن فصله عن سياقات تطبيقه، والتي تفرض أن نكون في مجتمع إسلامي اكتمل تكوينه وأصبح يُحكّم شرع الله في كل صغيرة وكبيرة من أمور دينه ودنياه.
وهنا يقول سيد قطب في تفسيره لهذه الآية: "إنه (يقصد سيدنا يوسف عليه السلام) لم يكن يعيش في مجتمع مسلم تنطبق عليه قاعدة عدم تزكية النفس عند الناس وطلب الإمارة على أساس هذه التزكية. كما أنه كان يرى أن الظروف تمكّن له من أن يكون حاكما مطاعا لا خادما في وضع جاهلي. وكان الأمر كما توقع فتمكن بسيطرته من الدعوة لدينه ونشره في مصر في أيام حكمه. وقد توارى العزيز وتوارى الملك تماما..".
وقد استدل بعض المعاصرين بهذه الآية على جواز طلب الإمارة، وجواز إعطائها لمن طلبها. وناقشوا، وهم في معرض تفسيرها، مدى شرعية تولي المناصب العليا في دولة لا تحكم بشريعة الله.
يقول سيد قطب: "وهذه المهمة، مهمة إحداث انقلاب إسلامي عام، غير منحصرة في قُطْر دون قُطْر، بل ما يريده الإسلام ويضعه نصب عينيه أن يحدث هذا الانقلاب الشامل في جميع أنحاء المعمورة، هذه هي غايته العليا ومقصده الأسمى الذي يطمح إليه ببصره، إلا أنه لا مندوحة للمسلمين أو أعضاء الحزب الإسلامي –يقصد الإخوان– عن المشروع في مهمتهم بإحداث الانقلاب المنشود والسعي وراء تغيير نظم الحكم في بلادهم التي يسكنونها". (في ظلال القرآن الجزء 3 الصفحة 1451).
هذا الطرح القطبي يتماهى، نسبيا، مع أطروحة أصحاب "الأممية الرابعة" من أتباع ليون تروتسكي (1879/ 1940) والذين ينادون بالثورة الموازية في جميع أقطار العالم، حيث يلخصها إرنست منديل في مقولة: "كيف يمكن أن تقوم الثورة في البرازيل والموزمبيق مازالت مستعمرة برتغالية". إلا أن الإخوان يرون إمكانية العمل على الوصول إلى السلطة في أي بلد توفرت فيه الشروط الذاتية والموضوعية لتحقيق "التمكين"، في أفق توحيد هذه الأقطار تحت مظلة "الخلافة الإخوانية".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة