شبح انقلابات الكونغو الديمقراطية.. خبراء يتعقبون لـ«العين الإخبارية» جذور الأزمة
حين يصل دوي الرصاص إلى قصر الرئيس فالمؤكد أن الأمر يتجاوز محاولة انقلاب بل تشي الحلقات المفقودة بأن الوضع أسوأ بكثير مما يبدو.
ففي الكونغو الديمقراطية، لا تزال محاولة الانقلاب التي استهدفت الرئيس مؤخرا تثير الكثير من الاستفهامات والتساؤلات حول ما إن كانت مجرد رصاصة في ثغرة مزمنة أم أنها إنذار بمخاطر أكبر من ذلك.
ومنذ عقود، يعيش البلد الأفريقي حالة مستعصية من عدم الاستقرار السياسي، جعلت الرئيس فيليكس تشيسيكيدي يواجه تحديات متراكمة بغية تحقيق استقرار قد يكون صعب المنال.
إلا أن الرجل يحاول وسط رمال متحركة من المشاكل زادت وتيرتها بعد تعرضه لمحاولة إنقلاب فاشلة في 19 مايو/ أيار الماضي، شارك فيها أجانب وكونغوليون.
ويتمتع الرئيس بصلاحيات كاملة، لكنه يكافح من أجل السيطرة على أغلبيته، بينما تتراكم التحديات الأمنية والسياسية، من قتال حركة "إم 23" في الشرق إلى مراجعة الدستور، إضافة إلى المنافسات داخل الأغلبية التي تسببت في تأخير إنشاء مؤسسات جديدة لفترة طويلة.
ويؤكد خبراء تحدثوا لـ"العين الإخبارية" أن تداعيات المحاولة الانقلابية تشير إلى أنها قد لا تكون الأخيرة، وأن تركة المشاكل بالبلاد قد يدفع إلى نفس النتيجة.
دولة هشة
الخبير المصري في الشؤون الأفريقية، الدكتور حمدي عبد الرحمن، يرى أن "الكونغو الديمقراطية دولة هشة جدا، وأنها تقع في وسط منطقة مضطربة، ومركب أمني بالغ التعقيد والتشابك".
ويقول عبد الرحمن لـ"العين الإخبارية"، إن "الدولة نفسها مضطربة من حيث الاسم، وهي من القلائل التي شهدت تغيرا في اسمها، وكانت تدعى الكونغو الحرة، والكونغو البلجيكي، ثم زائير وهي الآن جمهورية الكونغو الديمقراطية".
وأضاف أن "الماضي الاستعماري لدولة الكونغو بالغ القسوة والشدة، ويؤثر على كثير من المشكلات التي تعاني منها الكونغو حاليا، ويمكن أن نتخيل الفترة التي حكم فيها ليوبولد الثاني ملك بلجيكا، الكونغو باعتبارها إقطاعية خاصة له في منتصف القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين".
وتابع أنه "نتيجة هذه القسوة والشدة والوحشية، قتل نحو 10 ملايين شخص في هذه المنطقة ممن كانوا يعملون في قطع الأحجار والحصول على المعادن الثمينة".
وأشار إلى أن الكونغو الديمقراطية حصلت على استقلالها عام 60 من القرن الماضي، وميراث الانقسام العرقي والاستعماري أثر عليها بشكل كبير.
وبحسب الخبير، فإن "التداخل الإثني والعرقي بين دول الجوار مثل رواندا وأوغندا وبوروندي كبير، ومن ثم عانت الدولة منذ ذلك الوقت من تدخلات كبرى".
ولفهم طبيعة التدخلات الحالية وأزمة الدولة، ينبغي الرجوع لفترة التسعينات حين شهدت البلاد اثنتان من الحروب الأهلية، مشيرا إلى أن نحو 2 مليون شخص اضطروا للفرار بعد ذلك إلى شرق الكونغو، وهي منطقة من أغنى المناطق في أفريقيا بالمعادن والنحاس والكوبالت والذهب.
إرث
الخبير المصري أوضح أيضا أن "هناك مليشيات متطرفة من عرقية الهوتو بعد تشكيل حكومة يقودها التوتسي في رواندا، وأنه بدأ الخلاف ينشأ بين الكونغو الديمقراطية وجيرانها وحاولت كل من أوغندا ورواندا غزو أراضي الكونغو".
وأدى ذلك إلى تدخل قوات أفريقية ودول أخرى، بحسب الخبير الذي قال إن هذه الحرب أطلق عليها الحرب الأفريقية العالمية الأولى نسبة لعدد الدول التي شاركت فيها.
وشدد على أن "هذا ميراث مهم لفهم أزمة الكونغو الحالية، ففي عام 2009 حدث نوع من الهدنة، وبعد ذلك تشكلت في عام 2012 حركة "إم 23" والتي تدعمها كل من رواندا وأوغندا".
وأضاف أن "هذه الحركة المسلحة تسيطر على معظم المدن المهمة في شرق الكونغو الديمقراطية، ونحن أمام حركة عصيان مسلح مع تعدد الحركات العنيفة ضد الدولة والتي تصل إلى حوالي 120 حركة مسلحة أهمها "إم 23"".
البعد الخارجي
الخبير المصري في الشأن الأفريقي اعتبر أنه لفهم الأزمة الراهنة بالكونغو الديمقراطية، "ينبغي أن نأخذ هذه المتغيرات في الحسبان، من فهم هذا الإرث الاستعماري الثقيل الذي عانت منه البلاد، وعمليات التخاطف والتكالب على استغلال مواردها الطبيعية".
وأوضح أن "من بين المتهمين بتنفيذ الانقلاب الأخير هو أحد رجال الأعمال الكبار يحمل الجنسية الأمريكية، وفكرة السيطرة على المعادن قد تدفع إلى مثل هذه الخطوة".
وقال إن "ذلك يعبر عن مأساة الكونغو الديمقراطية الحقيقية، وكيف تتورط مؤسسات دولية كبرى مع أطراف داخلية في عملية استخراج الموارد وتهريبها إلى الخارج".
ويضاف إلى كل ذلك "الفساد ونظام الحكم وسوء الحوكمة وهو مزيج آخر من الزيت الذي يصب على النار المشتعلة في الكونغو".
من جانبه، يعتبر محفوظ السالك، الباحث الموريتاني في الشأن الأفريقي، أن خطورة الانقلاب الفاشل تكمن في تداعيات ما بعد الحادث.
وقال السالك لـ"العين الإخبارية"، إنه قد تمت السيطرة على الأمور، وتمت تصفية قائد هذه المحاولة كريستيان مالانغا، وهو جندي سابق بالجيش الكونغولي ويحملالجنسية الأمريكية.
وبالنسبة له، فإن "البعد الخارجي في المحاولة هو الذي يزيد الكثير من المخاوف، خصوصا في ظل وجود أجانب آخرين في هذه المحاولة، تم اعتقال بعضهم وسيقدمون لمحاكمة من ضمن 59 متهما من بينهم نجل مالانغا".
سياق مأزوم
ولفت الباحث الموريتاني إلى أن التطورات تأتي في سياق مأزوم سياسيا وأمنيا واقتصاديا واجتماعيا.
وقال إنه رغم أن الكونغو الديمقراطية غنية بالمعادن والموارد الثمينة ولكن ذلك لم ينعكس على أوضاعها الاقتصادية ولا الاجتماعية، مضيفا أن كل هذه السياقات مجتمعة تعطي للمحاولة الانقلابية بعدا وتداعيات أكبر.
وأوضح أن المحاولة "قد تكون مدفوعة بكل هذه العوامل المتأزمة تفاقم بالتالي المخاطر على نظام الرئيس فيليكس تشيسيكيدي في ولايته الثانية، مؤكدا أن المعطى الخارجي أيضا يزيد من صعوبة الوضع ومن خطورته.
ويتابع متسائلا: "صحيح أن المحاولة فشلت، ولكن هل ستكون هناك نواة أخرى قيد التشكيل من أجل محاولة جديدة؟، وهل هناك متعاونون داخليا مع آخرين خارجيا من أجل تنفيذ محاولة أخرى؟
أما الدكتور رامي زهدي، نائب رئيس مركز العرب للأبحاث والدراسات، فيعتبر أن الكونغو الديمقراطية دولة مهمة في وسط أفريقيا بمسار نهر النيل ومنابعه، وأنها غنية بثروات كامنة وظاهرة عظيمة.
وقال زهدي لـ"العين الإخبارية"، إن مساحتها وحدها تمثل نقطة قوة، كونها الثانية في المساحة بعد الجزائر، والحادية عشر على مستوى العالم، وهي أكبر دول العالم المتحدثة للغة الفرنسية.
وأوضح أن الكونغو تعاني أزمات أمنية ولا يزال شرقها منذ عام 2015 مسرحًا لنزاعٍ مسلح في شمال كيفو، مشيرا إلى أن آخر الأزمات كانت محاولة انقلاب وصفت بالفاشلة، وباتت عملية بالتأكيد في حكم المنتهية بالفشل.
واستدرك: "لكن ربما لن تكون المحاولة الأخيرة إذ يخشى أن تنجح إحدى المحاولات يوما ما، طالما ظلت المشكلة قائمة والتدخل الخارجي مستمر سواء من قوى دولية ذات مصلحة أو دول جوار أفريقية مثل رواندا التي تتهمها دائما كينشاسا بدعمها لمجموعة إم 23 المتمردة".
وبحسب زهدي، فإن الإعلان عن وجود عناصر أجنبية، منها أمريكي ذا صلة بالأحداث يعد مؤشرا خطيرا، ما قد يساهم في اتساع الفجوة حديثة النشأة بين أفريقيا المتحررة حديثا من النفوذ الغربي، وبين الغرب المدعوم دائما بالولايات المتحدة الأمريكية.
كما قد يفتح بابا واسعا لقوى الشرق ممثلة في روسيا والصين، وفق الخبير.
ولفت الخبير المصري إلى أن كل الانقلابات نتاج لتحرك خارجي، بعضها شعبي بسبب الإقصاء وانغلاق المناخ الديمقراطي العام السياسي والاقتصادي، وسوء الأحوال المعيشية كما هو الحال في التغيير السياسي في النيجر ومالي وبوركينا فاسو وهو ما رفضته القوى الغربية بشدة.
وتابع: "لكن الأمر انتهى بتحقيق إرادة الشعب وطرد القوات الفرنسية والأمريكية خارج هذه البلاد، مؤكدا أن الوضع في الكونغو مختلف، وأنها دولة قوية وذات دعائم أقوى من النظراء في الغرب".
وختم بالقول: "ربما تؤثر هذه المحاولة على تغيير سياسي واقتصادي داخلي يفتح مزيدا من المجال أمام الديمقراطية أو تغييرا بالعكس تماما، واتخاذ تدابير أكثر قوة أمام أي صوت معارض وسيطرة أمنية أقصى"، مؤكدا أن ما قبل الانقلاب الفاشل لن يكون مثل ما بعده".
aXA6IDE4LjIyMS44LjEyNiA=
جزيرة ام اند امز