الهجوم على منزل وزير وقصر الرئيس في الكونغو الديمقراطية لم يكن مجرد محاولة انقلاب فاشلة، وإنما كشف أرضية هشة تتقاطع عندها معطيات كثيرة.
حدث لم يكن مفاجئا في منطقة تقف في مجملها على رمال متحركة تحكمها الانقلابات والتداول القسري على الحكم، بل بالعكس، بدا مرتقبا في بلد يتنازعه عنف المتمردين في الشرق، وتعقيدات السياسة في كينشاسا، وأطماع الخارج في بلد يزخر بثروات طبيعية هائلة.
حدث ذلك في وقت كان فيه البلد الأفريقي يعاني من حالة جمود في ظل غياب حكومة رغم مضي أكثر من 5 أشهر على إعادة انتخاب الرئيس فيليكس تشيسيكيدي.
ولاحقا، بدا وكأن المحاولة الانقلابية أيقظت الرئيس من غفوة الجمود، فكان أن أعلن بعد أقل من أسبوعين فقط، تشكيل حكومة جديدة، ومن تشكيلتها تتضح مواطن الوهن التي تعاني منها البلاد.
ففي العاصمة، لا يبدو المشهد السياسي متوارنا واستهداف منزل أحد الوزراء وقصر الأمة كان أبرز دليل، أما في الشرق فتستعر المعارك بين الجيش لاستعادة أراض استولى عليها متمردو حركة إم23 (حركة 23 مارس/آذار).
ألغام القصر
منذ عقود، تعيش الكونغو الديمقراطية حالة مستعصية من عدم الاستقرار السياسي، ويحاول الرئيس تشيسيكيدي وسط تحديات متراكمة تحقيق هذا الهدف، إلا أن الرجل يواجه رمالا متحركة.
ومحاولة الانقلاب التي استهدفت تشيسيكيدي في 19 مايو/أيار الماضي، شارك فيها أجانب وكونغوليون، ما يعني أن الرجل يواجه أكثر «من عدو»، وإن تظل ألغام قصره الأخطر بحكم قدرتها على الانفجار بوجهه في أي لحظة.
ويتمتع الرئيس بصلاحيات كاملة، لكنه يكافح من أجل السيطرة على أغلبيته، في ظل احتدام المنافسات داخل الكتلة ما تسبب في تأخير إنشاء مؤسسات جديدة لفترة طويلة.
وذكرت تقارير دولية أن الرئيس يعتمد منذ فوزه بولاية رئاسية ثانية، على دائرة محدودة بشكل متزايد من الأصدقاء المقربين أو المتعاونين قليلي الكلام أو أفراد عائلته.
وفي قراءته للموضوع، أشار السفير صلاح حليمة، نائب رئيس مجلس الشؤون الخارجية المصري والخبير بالشأن الأفريقي، إلى الانتخابات الرئاسية الأخيرة المقامة بالكونغو الديمقراطية في ديسمبر/كانون الأول الماضي وما لاقته من تشكيك من المعارضة في فوز الرئيس.
وقال حليمة في حديث لـ"العين الإخبارية"، إن هذا الموضوع أدى إلى نوع من التصعيد من المعارضة بالبلاد.
وأضاف أن "حركة إم 23 التي تحظى بدعم من روندا تحاول هي الأخرى زعزعة الاستقرار مع وجود مقاومة قوية من قبل القوات المسلحة الكونغولية".
التعددد العرقي
وبحسب حليمة، فإن "الكونغو الديمقراطية دولة غنية بالموارد وهذا ما يجعلها ساحة للصراع الغربي والشرقي للحصول عليها".
وهذه الأطماع تشكل واحدة من التحديات التي تواجه البلد الواقع وسط القارة الأفريقية ويطل من شريط ضيق على المحيط الأطلسي.
ويتكون المجتمع الكونغولي من نحو 200 عرقية، أهمها المونغو واللوبا والكونغو، وجميعها تنحدر من مجموعة البانتو، إضافة إلى مانغبيتو أزنداي، وهذا أيضا يمثل تحديا كبيرا.
يضاف إلى ذلك مواردها الطبيعية وعلى رأسها الماس والذهب والنفط والفضة والزنك والفحم والخشب، ما وضعها بمقصلة الأطماع الخارجية في خيرات هذا البلد الأفريقي الغني بموارده والفقير في أحواله.
وعلاوة على ذلك، تعاني الكونغو الديمقراطية منذ الاستقلال من عدم الاستقرار مع انتشار الفساد، مما تسبب في إضعاف اقتصادها حتى أصبحت على حافة الإفلاس خلال التسعينيات من القرن الـ20.
كما يرى مراقبون أنه رغم أنها استعادت استقرارها نسبيا مطلع الألفية، إلا أن البلاد لا تزال تعاني من تبعات الحرب واستشراء الفساد.
المتمردون
أما المشكلة الأكبر لكينشاسا فتكمن في مناطقها الشرقية التي تشهد حالة من عدم الاستقرار بسبب المراجهات بين الجيش ومتمردي حركة "إم 23".
والحركة المتمردة تأسست عام 2012 وتضم مقاتلين من عرقية التوتسي يرفعون شعار الدفاع عن هذه الإثنية باعتبارها مهمشة ومهددة من طرف الحكومة المركزية في كينشاسا.
وتتهم الحكومة الكونغولية دولة رواندا بدعم هذه الحركة، وهو ما تنفيه الأخيرة، في سجالات رفعت منسوب التوتر بين الجانبين ودفعت واشنطن لتحذيرهما ودعوتهما لتجنب الصراع.
وأوضح الدكتور محمد شريف جاكو، الخبير التشادي في الشأن الأفريقي، أن هناك مجموعات كبيرة من قبائل التوتسي الرواندية التي هاجرت إلى الكونغو الديمقراطية المجاورة واستوطنت بها منذ فترات طويلة وأصبحت من سكان البلد الأصليين.
إلا أن الحكومة المركزية في كينشاسا لم تعترف بهم، ما أدى إلى قيام حركة تحررية لهم تساندها رواندا (وهو ما تنفيه كيغالي).
وقال جاكو لـ"العين الإخبارية"، إن "هذه الحركة تسيطر على مناجم من الذهب، وتجند الناس للتنقيب في هذه المناجم".
«لعنة الموارد»
جاكو أضاف أن "الكونغو الديمقراطية بلد غني جدا بالموارد الطبيعية، ما شجع شركات أجنبية كثيرة في السيطرة على هذه الموارد وسرقتها لصالح بلدانها".
وبحسب الخبير، فإن "الرئيس الكونغولي الأسبق لوران كابيلا اغتيل بسبب هذه الصراعات الدولية على البلاد"، مشيرا إلى أن الأطراف المتصارعة "ساهمت في وصول نجله جوزيف كابيلا للرئاسة لتحقيق مصالحهم".
واعتبر أن "هذه الأطماع الغربية، وعلى رأسها فرنسا والولايات المتحدة، ساعدت على استشراء الفساد وعدم الاستقرار بالبلاد".
من جانبه، أوضح عبد الله امباتي، الكاتب الصحفي الموريتاني المتخصص في الشأن الأفريقي، أن "أمريكا كانت تحاول أن تبعد فرنسا والدول الأوربية بشكل عام عن مستعمراتها في أفريقيا من أجل أن تكون هي البديل".
وقال امباتي لـ"العين الإخبارية" إن "أمريكا أسست عدة قواعد لدعم الدول الأفريقية لمحاربة الإرهاب"، مضيفا أن واشنطن "تبحث في أفريقيا عما يعزز اقتصادها خصوصا في مجال الطاقة".
وبالنسبة للخبير، فإن "الكونغو الديمقراطية دولة غير مستقرة ولديها العديد من المشاكل الداخلية، ولذلك فإن أي تدخل من أي دولة سواء بقلب نظام الحكم يأتي من أجل المصالح وتنفيذ الأجندات".
وأكد أن أمريكا والغرب في صراع مستمر مع روسيا على الكونغو الديمقراطية مثلها مثل باقي الدول الأفريقية.
بدوره، أوضح الدكتور محمد تورشين، الباحث السوداني في الشأن الأفريقي، أن الكونغو الديمقراطية من الدول الأفريقية التي "أصيبت بلعبة الموارد".
ويقول تورشين لـ"العين الإخبارية": "رغم أن الكونغو الديمقراطية غنية بالموارد، إلا أنها من أفقر البلدان الأفريقية من حيث الناتج الإجمالي ودخل الفرد في ظل معدلات البطالة واستشراء الفساد".
وأشار إلى أنه "بعد المحاولة الانقلابية الأخيرة، هناك اتهامات من الحكومة بوقوف عدد من الدول الغربية أو مواطنين من دول غربية خلفها، من ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا".
ولفت إلى أن الاتهامات للمنظومة الغربية ظلت حاضرة منذ الاستعمار البلجيكي، والكثير من البلدان تراهن على عدم الاستقرار لتحقيق مصالحها الاقتصادية.
كما اعتبر أن هناك دعما وتمويلا للجماعات الانفصالية وعلى رأسها حركة "23 مارس" باعتبارها أهم الحركات المزعزعة لأمن البلاد، من أجل استمرار حالة عدم الاستقرار.
وخلص الخبير إلى أن "هذا الأمر سيمنح تلك القوى إمكانية الحصول على الموارد بأسعار زهيدة"، مشيرا إلى أنه جرى استخدام هذه السياسات في كثير من البلدان الأفريقية.