أميل إلى هذا التعريف للأيدولوجيا بأنها: نسق من الأفكار يحدد السلوك الاجتماعي والسياسي، لماذا أميل إلى هذا التعريف أكثر من غيره؟
أميل إلى هذا التعريف للأيدولوجيا بأنها: نسق من الأفكار يحدد السلوك الاجتماعي والسياسي، لماذا أميل إلى هذا التعريف أكثر من غيره؟ لأنه إضافة إلى رشاقته فهو أيضاً تعريف محايد وعملي ويمكن من خلاله الانصراف إلى مواجهة السؤال التالي: هل الأيديولوجيات مهيمنة وثابتة أم أنها متحولة، ويمكن التحكم بتوجيهها بل وإعادة بنائها على مستوى المضامين والقيم؟
ليس من المبالغة القول إن مختلف التنظيرات والأبحاث المتعلقة بهذا الفضاء في واقعنا العربي، قد انشغلت بنقد وقراءة وتفسير الأيديولوجيات ووفق نظريات عالمية، أكثرها قادم من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ولم يحدث أن تبنت مدرسة ما أو باحثون مشروع إعادة بناء الأيدولوجيات وتوجيهها .
الواقع اليوم يشير إلى أن الدول التي ازدهرت بها العقائد الوطنية المدنية في المنطقة العربية هي التي تقدم اليوم تجارب رائدة في الاستقرار والتنمية، وبناء الإنسان، فعقائدها الوطنية هي التي رسّخت لديها سلوكاً مدنياً يومياً تراه في كل شيء بدءاً من المساواة وسيادة القانون؛ وصولاً إلى انتظام السائقين ونظافة الشوارع والأماكن العامة
ماذا لو اتجهنا للحديث عما يمكن وصفة بأيديولوجيات الدولة الوطنية الحديثة؟ طبعاً المؤمنون بالنظريات والتعريفات المحددة سيرون هذا نوعاً من العبث العلمي؛ لأنه لا يلتزم بقواعد التعريفات الأساسية للأيديولوجيا ، ومن وجهة نظري أن هذا مخالف لروح العلم التي لا تحددها القوالب ولا الأفكار المنقولة والقواعد الجاهزة، وقد تكرر هذا مع عدة مفاهيم، حيث التزمت الثقافة العربية بحرفية تلك المفاهيم ولم تُعِد بناءها وفق التحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة، والتي كان من أبرزها ظهور الدولة الوطنية الحديثة، ومن تلك المفاهيم التي مثلت أزمة حقيقية : الديمقراطية ، الثورة ، التحول الديمقراطي ، الانتخابات ، ومع ان الأعوام من ٢٠١١ الى ٢٠١٤ شهدت حالة رواج وتداول واسع لتلك المفاهيم في الواقع العربي؛ نتيجة الأحداث التي شهدتها بلدان المنطقة، إلا أن أيا منها لم ينجح ولم يكن له ذلك لأنها أفكار وقيم غير متصلة بالواقع ولا بتحولاته.
لنتفق أولاً أن للدولة الوطنية أنساقها الفكرية التي تؤثر في سلوكها الاجتماعي والسياسي (سأضيف الاقتصادي) وتسهم في توجيهه أيضاً. ولأن الدولة الوطنية هي آخر منتج حضاري إنساني في إدارة التجمعات ونظم الحياة وبناء الكيانات وإدارة العلاقات فيما بينها، وإدارة العلاقات الداخلية بين أفراد الكيان الواحد من خلال المؤسسات والتنظيمات المختلفة، وما استتبع ذلك من ظهور وتصاعد الوعي الوطني المحدد جغرافياً على حساب الوعي الأممي العام غير المحدد، فإننا أمام ما يمكن وصفه بالأيديولوجيات الوطنية الجديدة .
الواقع اليوم يشير إلى أن الدول التي ازدهرت بها العقائد الوطنية المدنية في المنطقة العربية هي التي تقدم اليوم تجارب رائدة في الاستقرار والتنمية وبناء الإنسان، فعقائدها الوطنية هي التي رسخت لديها سلوكاً مدنياً يومياً تراه في كل شيء بدءاً من المساواة وسيادة القانون، وصولاً إلى انتظام السائقين ونظافة الشوارع والأماكن العامة .
هذه العقائد (الأيديولجيات) الجديدة تتكىء على معطيات عدة تشكل عوامل بناء لها لكنها لا تتحكم بها، كالمعطيات الدينية والقومية والتاريخية، وتمثل لها عناصر قوة وامتداد، ولكن النجاح الأبرز أنها لا تتحكم بها، فهي دول إسلامية الهوية لكنها ليست دولاً دينية بالمفهوم الثيوقراطي الشمولي التوسعي، وهي دول عربية الانتماء لكن ليست بالمفهوم الشمولي الوحدوي البائد وكلما تقلصت دوائر الانتماء اتسعت الفاعلية والشراكة.
دول الخليج اليوم ربما تمثل النموذج الأبرز الذي يمكن أن تنطلق منه مختلف مدارس التنظير العربي لإعادة توجيه مفهوم الأيديولوجية العقائدية توجيهاً وطنياً علمانياً يجعل من المدنية والوطنية قيماً وأنساقاً فكرية عليا تؤثر في السلوك العام وتوجهه أيضا ، والاستقرار الذي تعيشه الرياض وأبوظبي والمنامة وغيرها إنما تتمثل أبرز مقاومته في صعود هذا الوعي الجديد، بينما الذين ما زالوا مرتهنين للأيدولوجيات الشمولية في تراجع مستمر، هو أيضا يتبدى في كل شيء من غياب الخطاب الوطني وطغيان الخطاب الطائفي الفئوي، وانتهاء بنظافة الشوارع والأماكن العامة .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة