لطالما تشابهت الهوية الدقيقة لأصحاب التوجهات الفكرية المنسدلة من وعاء واحد حتى أن تقاربها يصبح ملحوظاً في إنتاجها الإبداعي وهذا ينطبق على كثير من الحقول العلمية والمعرفية ما عدا تلك التي تتعلق بالصورة النقدية للموقف الحازم في إيجاد فكرة الاختلاف من أساسها
إن الاختلاف في المنهج والنهج الفكري والثقافي والديني لم يكن يوماً موضع خلاف أو تعثر في الحياة العلمية والمعرفية، ولا حائلاً دون التناغم الثقافي الإنساني الواسع، لكن حين تشكلت صورة الأنا وارتبطت بها العديد من «المحفزات» من مصالح وفيء وفير، فقد اتفق بعض بني البشر على استمرارية الاختلاف بدافع غير نفعي، وتكشف الستار عن أكبر مسرحية «مشوهة» للحضارة والعقل الإنساني من خلال الخوض في غمار تعترف جبهاتها كافة بافتقارها للحق من الأساس.
ومن هذا الباب نطرح تساؤلات ترمي إلى إيجاد بصيص أمل في الإجابة عليها، فإذا كان الجدل تعبيراً عن الحاجة والجهد والبذل والطاقة البشرية، فهل يمكن تبرير منبعه وأساسه؟ وهل يعتبر الوقوف في وجه «سيل الجدل» تحديداً للحركة المعرفية والنقدية؟ وهل تكون «الراحة» أو تحقيق الرفاه الذهني للإنسان بتجميد عقله؟
إنَّ الجدل هو «اللدد في الخصومة والقدرة عليها ومقابلة الحجة بالحجة»، كما وصفه ابن منظور. وقد جاء في اللغة أنه أداة خاصة بالأذكياء للوصول إلى حقيقة ما أو للارتقاء بها نحو فسحة فكرية أوسع، الأمر الذي يبرر ازدهاره في عصر اليونان من خلال أطروحات عقلية فلسفية «مستنهضة» للملكة الحاذقة لدى فلاسفة ذلك العصر، منتقلاً من كونه فكرة إلى اعتباره منهجاً ثم أسلوباً معتبراً يوسع المدارك ويفتح آفاقاً جديدة للتفكير والمعرفة. وهكذا فإن الجدل قد يكون محركاً يغذي الجهد الفكري البشري ويتغذى عليه، لا سيما في ظل الفائدة المتحصلة من ورائه حينما يكون جدلاً من أجل المعرفة لا سواها، وبالتالي فالوقوف في وجه التسلسل والاستمرارية فيه يكون تقييداً للحركة المعرفية والنقدية فقط عندما يجابه أو يعترض على النقد البنّاء المبرّأ من المصالح الفردية والأغراض الأيديولوجية.. فالرفاه الفكري البشري يتطلب حركة مكوكية لا تتوقف، ولكن فقط في المسرب السليم من الطريق.
علينا الاعتراف بأن ما يجابه هذا العالم من تحديات يمثل حركة متزايدة ومتتابعة، مما يبين الحاجة إلى إيجاد الحلول الناجعة وتحقيق التفاعل الخلاق بين قيمة الاختلاف ومنبع الجدل النافع، وتمييزها عن صور الجدليات المؤججة بالأيديولوجيا. ومن هنا يستطع الإنسان أن يعترف بفوزه على الاختلاف الذي يعني التفرق والتنازع، وهذا ما يقدم ترياقاً محكماً لتحديات ومشاكل كثيرة، وبخاصة في ظل تنوع صور الاختلاف في كل المجتمعات البشرية المميزة عن غيرها بثقل فكري وتقليدي ثقافي، قبل أن يكون ثقلاً في تعدادها وحسب، مما يجعل المستقبل المأمول، ملزماً باستيعاب حضاري عابر للمساحات الغنية بالتعددية العرقية والثقافية والدينية.. وبالقدرة على تجميع شمل الإنسانية من شتى المشارب والمذاهب، واستثمار التجارب الفريدة، خروجاً بتناغم متسق ومتوازن فيما بين شقيه الإنساني الأخلاقي والعملي السلوكي.
نقلا عن صحيفة الاتحاد الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة