كشفت تطورات الأوضاع في المواجهة بين حركة حماس وإسرائيل أن ترك الصراعات الدولية والإقليمية على ما هي عليه قد يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار، واستمرار التجاذبات الدولية خاصة أن طرفي الصراع غير قادرين على حسمه.
والتعامل بمعادلة صفرية مع صراع ممتد منذ سنوات طويلة منذ إنشاء الدولة العبرية في قلب العالم العربي، يشير إلى أن الصراع تحول إلى صراع معقد ومتشابك ومضى في مسارات متعددة، ودخلته أطراف كثر إضافة إلى انقسام أطرافه الداخلية ما بين سلطة مشروعة تم تدشينها على جزء من أرض فلسطين التاريخية بمقتضى اتفاقيات بين إسرائيل والجانب الفلسطيني وفق صيغة اتفاقيتي أوسلو وباريس، التي لا تزال تحكم العلاقات الراهنة بين السلطة الفلسطينية رسمياً، وبين إسرائيل بصرف النظر عن طبيعة العلاقات الراهنة بين الجانبين.
ولكن تبقى العلاقات قائمة ومتصلة، وفي أطر محددة رغم تجمد الاتصالات السياسية منذ سنوات، واقتصارها على أعمال التنسيق الأمني بين الجانبين عبر لجان الارتباط، ورغم توقف التنسيق الأمني بقرار اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية إلا أنه كان يمر، ويتم في مستويات عليا، إضافة إلى الفصائل الفلسطينية الموجودة في قطاع غزة، التي نجحت حركة حماس من خلال انقلابها على السلطة الفلسطينية في حكم القطاع، وتحويله إلى قطاع مواجهة تبني استراتيجية المواجهة مع الجانب الإسرائيلي.
ومع تضارب البرامج بين حركتي فتح وحماس كان طبيعياً أن يكون في الواجهة خيار المواجهة الذي تبنته حركتا الجهاد وحماس في مواجهة إسرائيل، التي استمرت في التصعيد العسكري، وتبني مقاربة في المواجهة مع الجانب الفلسطيني في الضفة الغربية، واتضح من مجمل المواجهات التي قامت بها الحكومة الإسرائيلية، ومحاولتها تغيير قواعد الاشتباك على الأرض مع الجانب الفلسطيني وهو ما برز من خلال اقتحامات المسجد الأقصى والمطالبة بتقسيمه واقعياً، مع استئناف سياسة الاستيطان، الأمر الذي أدى إلى تصعيد المواجهة في الضفة، وانتقالها إلى قطاع غزة في ظل استمرار المواجهة الدورية، بل والعمل على جس نبض حركة الجهاد الإسلامي التي انفردت في المواجهتين الأخيرتين بالدخول في مواجهة الحكومة الإسرائيلية، ثم دخلت حركة حماس في المواجهة الأخيرة، وأعادت التذكير بأنها الحركة الرئيسية والمسؤولة عن ضبط الأمن، والمواجهة في القطاع، وباعتبارها تملك قدرات عسكرية ومنظومة متكاملة تتجاوز بالفعل ما لدى الفصائل الأخرى، وبالتالي كان قرار تغيير قواعد الاشتباك، ونقل رسالة استراتيجية ملغمة بالفعل للجانب الإسرائيلي، وهو ما دفعها لمواجهة غير تقليدية ومكررة مثلما كان يجري في نقل المعركة للجانب الآخر خروجاً على كل المواجهات السابقة، بل والعمل على امتلاك أوراق ضاغطة مؤثرة وتقوية مركزها في التفاوض حقاً باحتجاز الرهائن والأسرى .
في المقابل، حصلت إسرائيل على دعم سياسي غير مسبوق من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، ودول غربية أخرى، بل وخرجت من حالة القطيعة التي كانت تعاني منها جراء سياستها، التي حذر منها الرئيس الأمريكي جو بايدن عند تشكيل هذه الحكومة، واعتبرها مسألة ماسة بعلاقات واشنطن- تل أبيب، بل وقاطع لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولم يلتقِ به سوى لقاء على الهامش في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعندما وقعت المواجهات بين حركة حماس وإسرائيل كان الأمر قد تم ضبطه، فإسرائيل نجحت في إعادة الدفء لعلاقاتها مع القوى الدولية، بل وفي المعسكر الآخر ممثلاً في الصين وروسيا، حيث أكد الجميع على حق إسرائيل في الحياة والدفاع عن أمنها مع تفويت الفرصة على المشروع الروسي في مجلس الأمن، والانتقال إلى مراجعة مجمل السياسات التي دعت إلى ضرورة الإقدام على إجلاء الأجانب عبر معبر رفح الذي قامت إسرائيل بقصفه دورياً قبل السماح بدخول المساعدات بعد تدخل الرئيس الأمريكي جو بايدن شخصيا .
ومن الواضح من استمرار المواجهات توجه الحكومة الإسرائيلية نحو التصعيد العسكري اللافت والمؤثر، فمن التعايش مع خطر الفصائل في قطاع غزة خاصة مع حركتي الجهاد وحماس، ومحاولة تقييد وضبط حركتهما من خلال الوسطاء الإقليميين، إلى العمل على إنهاء وجود الفصائل في القطاع والانتقال إلى الخطة "باء"، التي يعمل عليها الفريق العسكري في الحكومة الإسرائيلية الجديدة التي تدير المشهد في الوقت الراهن، وتريد أن تحقق الأمن المطلق، ونقل رسالة للجمهور الإسرائيلي بالعمل معاً، وبقدرة الجيش الإسرائيلي على الردع، واستعادة الهيبة الدولية، وهو أمر سيأخذ وقتاً في ظل تضارب الرؤى، والحسابات الأمنية والسياسية والعسكرية التي يعمل عليها المستوى العسكري في الوقت الراهن، واستثماراً لما يجري في إطار من عدم الاستماع للدعاوى بالتهدئة، أو الدخول في إجراءات بناء ثقة مجدداً، الأمر الذي قد يوتر الأجواء في الإقليم بأكمله، خاصة أن إسرائيل تريد حسم الأمر، وتحويل غزة إلى مناطق وكانتونات متقطعة تعمل في اتجاهات مختلفة، الأمر الذي يشير إلى أن إسرائيل لا تريد فقط إقامة مناطق معقمة، ومطهرة خالية من الوجود الفلسطيني بل وتصدير الأزمة بأكملها إلى مصر باعتبارها الدولة الكبرى، التي يمكن أن تستقبل الفلسطينيين لاعتبارات تتعلق بالعلاقات التاريخية، وبمنطق مصر الأخلاقي في إدارة علاقاتها العربية، ومع الجانب الفلسطيني .
وفي إشارة مهمة لما هو قادم من تطورات فعلية، أو على أرض الواقع ما قد يؤدي لنتائج سلبية مختلفة على أمن الإقليم بأكمله، خاصة أن الخطر أيضا يطول الأردن في إطار الضفة الغربية على اعتبار أن الأردن الوطن البديل ما يؤكد أن إسرائيل تريد حسم الصراع، وليس إدارته كما كان، ما سيتطلب الاستمرار في المواجهات، ورفض كل الخيارات السياسية الراهنة في ظل عجز أمريكي حقيقي عن التعامل مع إسرائيل بل والتواطؤ معها، وفشل المسؤولين الأمريكيين في الضغط على إسرائيل، بل وتم دعم الموقف الإسرائيلي والمشاركة في اتخاذ القرار العسكري باستمرار المواجهة من خلال حضور المسؤولين الأمريكيين اجتماعات مجلس الوزراء المصغر، وهو ما قد يؤكد أن هناك مؤامرة حقيقية على الشعب الفلسطيني، وجود دعم غربي مفتوح لقرار تصفية الوجود الفلسطيني على الأرض من خلال استراتيجية الإقصاء والترانسفير، وتحميل دول الجوار الإقليمي مسؤولية الحل النهائي، وغلق الباب أمام أي تهديدات حقيقية يمكن أن تعلن عن نفسها وتمس إسرائيل، وهو أمر قد يطول في إطار استراتيجية إسرائيلية قد تأخذ بعض الوقت لتنفيذها ما لم يتم التصعيد، وهو أمر وارد من الجانب الفلسطيني لدخول المنطقة والإقليم ومساحات أخرى وإحداث حالة من عدم الاستقرار، ما قد يؤكد أن إسرائيل وحدها لن تتضرر بل الإقليم، ودوله بل والمصالح الغربية أيضا .
واهم مَن يظن في الدوائر الأمريكية وإسرائيل أن إعادة تقسيم الإقليم، أو المساس بوضعه سواء بالنسبة لما يجري في الأراضي الفلسطينية، ومناطق أخرى يمكن أن يتحقق أو يستمر في ظل مقاربات مفتوحة، وسيناريوهات عدة، فعودة استخدام وتوظيف القوة العسكرية لن تحل الأزمة الهيكلية الخاصة بالصراع العربي الإسرائيلي، بل ستؤدي إلى مزيد من المواجهات المباشرة والخطيرة، التي قد تؤدي إلى حرب شاملة في الإقليم، وخارجه في حالة خروج الأمور عن السيطرة وعن السياق المتعارف عليه في المواجهة ما يؤكد أن إسرائيل - إن مضت - ومن ورائها الولايات المتحدة في مسارها التصعيدي، فإن كل السيناريوهات المحتملة ستمضي في مسارات متعددة تركز على دفع الإقليم لحافة الهاوية، وعودة الاستقطاب الإقليمي والدولي، ولن يقتصر الأمر على ما يجري في غزة لصراع ممتد ومفتوح قد يطول، ويشمل كل الأطراف، ولن يقتصر على طرفي المعادلة الراهنة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة