حرّك مقال "الصحافة الورقية.. نعيب على المنصات الرقمية والعيب فينًا" المياه الآسنة في الوسط الإعلامي. غالبية الأراء تعاطت بإيجابية مع الطرح المُعاكس للاتجاه السائد حول مستقبل الإعلام التقليدي.
ووصفت ما جاء بالمقال بـ"الحقيقة المرة" التي تنكأ جراحاً غائرة لم تندمل بعد في جسد السلطة الرابعة.
فيما تلقيت سؤالاً استنكارياً" أي مستقبل ينتظر الصحافة التقليدية، في وقت تواجه فيه المنصات الرقمية خطر الأفول؟ مثلما أشرت سابقاً الإعلام التقليدي ونظيره الرقمي، يتكاملان لا يتقاطعان، غير أنني أؤيد وجود خطر وجودي يهدد المنصات الرقمية.. كيف ذلك؟
مرحلة ما قبل السوشيال
مرت المنصات الرقمية بمرحلتين خلال الألفية الجديدة. الأولى: قبل ظهور"السوشيال ميديا". الثانية: بعد ظهور السوشيال ميديا. في المرحلة الأولى التي بدأت في العقد الأول من الألفية الجديدة، مثلت المنصات الرقمية فارس رهان المستقبل، إذ استفادت من تحسين سرعة الإنترنت، وبزوغ فجر الأجهزة المحمولة.
هذا التطور وفر أنماطاً وأدواتاً كثيرة للتعاطي مع الأحداث، مثل "الآنية"، التوسع في استخدام الصور، إمكانية التعديل على الأخبار، استخدام الفيديو، التوسع في الفيديوغرافيك إمكانية إرسال ""sms (رسائل قصيرة) بأهم الأخبار لمشتركين بعينهم.
لم يكن هناك صوتاً في الفضاء الإلكتروني يعلو فوق صوت المنصات الرقمية. في هذه الفترة انطوت غالبية هذه المنصات تحت مؤسسات إعلامية كبرى، ما جعل الأمر منظماً وأكثر مصداقية إلى حدٍ ما.
التكاليف آنذاك كانت تفوق قدرة الأفراد أو المؤسسات الإعلامية الصغرى. الملاحظة الأخرى وجود مساحة مشتركة كبيرة بينها وبين الصحافة التقليدية. معظم المحتوى الذي كان ينشر عليها يتم الحصول عليه من الصحف المطبوعة داخل المؤسسات الإعلامية.
العنصر الآخر المهم في مرحلة ماقبل السوشيال، تمثل في نجاح هذه المنصات في توفير أرشيف ضخم وسهل الوصول، ما مكن المستخدمين من البحث والوصول إلى المقالات والأخبار القديمة بسهولة.
مرحلة الخطر الحقيقي
الثورة التكنولوجيا التي أعلنت عن نفسها بعد العقد الأول من القرن الجاري، ساهمت في انتشار الهاتف الذكي "smart phone"، الذي بدوره ساهم في ظهور "السوشيال ميديا". هنا قواعد اللعبة تغيرت تماماُ وفرضت فرصًا جديدة للوصول إلى جمهور أوسع، وجلبت معها مخاطر حقيقية تمثل تهديد وجودي للمنصات.
بحكم الممارسة الواسعة، يمكن إيجاز عوامل الخطر في أولاً: تحول السوشيال ميديا إلى ساحة مفتوحة أمام الجميع، خلق نوعاً من الفوضى في العالم الفضائي، ساهم ذلك في انتشار المعلومات والأخبار" غير الدقيقة" بسرعة كبيرة. هذا التحدي جعل من الصعب على المنصات الإعلامية الحفاظ على مصداقيتها وثقة الجمهور.
ثانياً: زاحمت حسابات السوشيال المنصات في التعاطي مع الأحداث، بشكل لحظي وفوري، وأحياناً موثق بالفيديو والصور، ما جذب الجمهور الراغب في متابعة الأخبار فور وقوعها.
ثالثاً: توسع المنصات الرقمية في إنشاء حسابات على السوشيال ميديا، بحثاً عن استقطاب جمهور جديد، والتعامل مع هذه الحسابات على أنها منصات قائمة بذاتها. بمعنى لم يعد دور حسابات السوشيال الخاصة بالمنصات الرقمية تسويق المحتوى الإعلامي المنشور، بل تخطاه إلى نشر قصص خبرية مصورة، وفيديو وفي بعض الأحيان أخبار مقتضبة، دون أن يكون لها رابط للمرور إلى المنصة الرقمية.
رابعاً: ظهور ألية البث المباشر على حسابات السوشيال. إذ أتاح هذا الأمر للجمهور المتابعة الحية للأحداث في أي وقت ومن أي مكان، دون الارتباط بمكتب أو جهاز كمبيوتر. والأهم أنه بات قادراً على التفاعل اللحظي مع تلك الأحداث.
ومن الأمثلة الدالة على ذلك الفعالية السنوية للإعلان عن منتجات "أبل" الجديدة.
خامساً: بروز ظاهرة الاكتفاء بإنشاء حساب على السوشيال، وتحويله إلى منصة إخبارية تهتم فقط بالأخبار العاجلة BREAKING NEWS هذه الحسابات لا تحتاج ميزانيات ضخمة أو فرق عمل كبيرة.
هذه الحسابات يطلق عليها"طرف ثال"، بمعنى أنها لا تصنع محتوى إخباري خاص بها، لكنها تكتفي بنقل الأخبار من مصادرها إلى جمهورها، مع التنويه إلى مصدر الخبر.
سادساً: إنشاء بعض الإعلاميين حسابات خاصة بهم على السوشيال ميديا، وتحويلها إلى منصة إخبارية، تتيج المحتوى للجمهور جزء دون مقابل وأخر باشتراك شهري.
هذه الحسابات باتت رائجة خاصة على "X" وتحقق أرباحاً كبيرة لأصحابها. سابعاً: رواج ظاهرة المؤثرين على السوشيال ميديا، وتقديم محتوي يتناسب مع مختلف الشرائح العمرية، ما ساهم في استحواذهم على نصيب الأسد من حجم الإعلانات الرقمية.
هذا ناهيك عن الأرقام الخاصة بعدد مستخدمي السوشيال ميديا، إذ بلغ نحو 5.04 مليار شخص، ما يعادل 62.6% من سكان العالم. هذا الرقم يمثل نموًا بنسبة 5.6% عن 2023.
إنتاج مسلسلات صحفية
لا يعني ما سبق البكاء على اللبن المسكوب. لابد من استراتيجية جديدة كليةً من أجل البقاء والمنافسة. في تصوري يتوجب التوجه نحو تحويل المنصات الرقمية إلى "مرئية" وليست مقروءة.
هناك توجه في غالبية المنصات نحو ذلك، لكنه محدود الأثر والقيمة. ما أقصده هو تحويل المنصات إلى ما يشبه" MINI T.V". يتم إعداد خريطة كاملة لبرامج الصحافة التليفزيزنية، إذ تضم هذه المنصات صحافيين محترفين يتمتعون بخبرات تمكنهم من إنتاج تقارير وتحقيقات مرئية ذات مصداقية عالية.
يمكن للمنصات التعاون مع المؤثرين ومنشئي المحتوى على السوشيال ميديا، للوصول إلى جمهور أوسع، عبر إنتاج محتوى مشترك، أو الاستفادة من جمهور المؤثرين للترويج للمحتوى الإعلامي.
التوسع في استخدام أنماط الإعلام الجديدة، خاصة "بودكاست" والبرامج الوثائقية.
الاهتمام بتنظيم جلسات حوارية مباشرة على الإنترنت، مع إمكانية إتاحة التعليقات وطرح الأسئلة أمام الجمهور.
التنوع في تقديم المحتوى الإعلامي بحيث يلبي الاحتياجات المعرفية والمعلوماتية، لمختلف الشرائح العمرية للجمهور.
الإطلاع الدائم على أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا، والتوسع في توظيف الذكاء الاصطناعي، وتقنيات الواقع الافتراضي، بما يسهم في توسيع قاعدة الجمهور.
من ضمن استراتيجية البقاء أيضاً، التعاقد مع كتاب رأي بارزين بصورة حصرية، بحيث يتم تحويل مقالاتهم من نصوص مكتوبة إلى مادة فيلمية، ويمكن أن تتاح هذه المقالات بصورة مجانية شريطة أن تكون مدعومة بالإعلانات، أو مقابل اشتراكات شهرية أو سنوية، ما يضمن دخلاً ثابتاً ومستداماً.
هناك عامل أخر في غاية الأهمية، يتمثل في إمكانية إنتاج المنصات الرقمية لـ"مسلسلات صحفية" لا تزيد مدة الحلقة عن 20 دقيقة، بواقع 5 حلقات لكل مسلسل، سيما وأن أرشيف المؤسسات الإعلامية الكبرى، يحوى كنوزاً إعلامية من السهل جداً تحويلها إلى أعمال درامية. وكذا اقتحام سوق إنتاج الإعلانات التجارية.
هذه خطوط عريضة من أجل مواكبة التطور في مجال الإعلام الرقمي. يقيناٌ هناك أفكار أرى أكثر ثراءً، تحتاج فقط تضافر الجهود من أجل الاستدامة والمنافسة.
بيت القصيد.. الإعلام الرقمي يتطور بصورة مستمرة وسريعة، من لا يملك القدرة على التطوير المستمر، والاستجابة السريعة لتغيرات السوق، وابتكار نماذج تجارية جديدة تعزز من الإيرادات وتجعلها أكثر استدامة، لن يستطيع الصمود طويلاُ في مواجهة هذه الأمواج العاتية.
• كاتب صحفي مصري
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة