يستحق كتاب الدكتورة سينزيا بيانكو "النظم الملكية الخليجية بعد الربيع العربي"، الصادر العام الجاري، اهتمام المختصين بالشأن الخليجي؛
فالباحثة الإيطالية بيانكو من القلة القليلة من الباحثين الأوروبيين الجادين والمتابعين بحرص لمستجدات المشهد الخليجي، وبرزت سريعًا بصفتها باحثة متمكنة من ملف العلاقات الخليجية-الأوروبية؛ وكتابها هذا إضافة مهمة للأدبيات الخاصة بشؤون المنطقة.
يتناول كتاب الدكتورة بيانكو تداعيات الربيع العربي على السياسات الأمنية الخليجية، ويثير سؤالًا وجيهًا هو: هل تعاملت دول الخليج العربي مع الفوضى التي صاحبت ثورات الأعوام 2011-2019 ككتلة سياسية واحدة، أم كدول وطنية منفردة؟ وهل تعاملت هذه الدول مع تداعيات تلك التحولات وفق إدراك جماعي للمخاطر والتهديدات، وانطلاقًا من مفهوم أمني خليجي موحد، أم وفق منظور أمني وطني خاص بكل منها؟
تقول هذه الباحثة الإيطالية الجادة إن جميع الشواهد لديها تؤكد أن كل دولة خليجية اتبعت نهجها الأمني الوطني الخاص بها، وإن لكل دولة من دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية أولويات أمنية مختلفة عن الدول الأخرى؛ وترى أن الاختلاف في الرؤى والأجندات الأمنية للدول الخليجية كان واضحًا إلى حد التضارب والتشاجر أحيانًا. ووفقًا لما جاء في الكتاب؛ فقد اتضح أن هناك اختلافًا أكثر مما هو اتفاق، بل حتى الاتفاق الأمني في حده الأدنى لم يتبلور في تلك المرحلة السياسية العصيبة؛ ولذلك اتسم موقف الكويت تجاه أحداث الربيع العربي بالحياد الإيجابي، واتخذت سلطنة عُمان سياسة الحياد الموضوعي، وطبقت البحرين سياسة الحياد الوسطي؛ أما الإمارات وقطر والسعودية، فقد وضعت الحياد بكل أشكاله جانبًا، وأخذت بنهج التفاعل الاستباقي والنشيط، الذي استمر بعد انتهاء مرحلة الربيع العربي.
وتحاول الدكتورة بيانكو الكشف عن تحولات الإدراك الأمني لدول الخليج العربية تجاه خمسة تهديدات مختلفة لا تزال تواجه الدول العربية، هي: التهديد العسكري، والتهديد الاقتصادي، والتهديد السياسي، والتهديد البيئي، والتهديد المجتمعي، وتعتقد مؤلفة الكتاب أنه لا توجد رؤية خليجية مشتركة وموحدة تجاه هذا التهديد الخماسي.
ويُعد هذا التصنيف الخماسي للمهددات الأمنية الخليجية جديد هذا الكتاب، وخاصة إدراج التهديد البيئي فيها. وتتضمَّن إضافات الكتاب أيضًا تفريقه بين ثلاثة مستويات متداخلة من المخاطر الأمنية؛ فإلى جانب التهديد الداخلي، والتهديد الخارجي، يرى الكتاب أن هناك نوعًا ثالثًا من التهديد الأمني مصدره داخلي وخارجي مشترك يسميه "التهديد الخارجي الذي استوطن داخليًّا" (Intermistic threat)؛ وربما يأتي هذا المصطلح في هيئة الخطر الأيديولوجي والعقائدي، وهو من أبرز إضافات الكتاب كما أسلفنا.
وبرغم أهمية ما ورد في هذا الكتاب القيم؛ فإن تركيزه على اختلاف التصورات الأمنية الخليجية مبالَغ فيه، ويتجاهل ما بين الدول الخليجية من توافق واتفاق عميقين تجاه الحفاظ المشترك على بقاء واستمرار النظم الخليجية الذي هو الهدف الأهم من قيام مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
وإضافةً إلى المبالغة في الحديث عن اختلاف التصورات الأمنية الخليجية؛ فإن اعتبار الدكتورة بيانكو الربيع العربي لحظة تأسيسية في التاريخ الخليجي المعاصر هو أيضًا من المبالغات الكثيرة الواردة في الكتاب؛ ذلك أن الربيع العربي حدث تاريخي زلزالي؛ ولكنه ليس بالضرورة لحظة مفصلية بالنسبة إلى دول الخليج العربية عمومًا، ودولة الإمارات خصوصًا؛ فانتقال الإمارات إلى مرحلة سياسة خارجية استباقية ونشيطة ليس من وحي هذا الربيع العربي، وليس وليد حدث إقليمي واحد مهما كان حجمه وتأثيره؛ بل جاء نتيجة طبيعية لمسار تاريخي تراكمي سابق لفوضى الربيع العربي، وتمَّ وفق رؤية واضحة وتخطيط سليم وعمل دؤوب، ويرتبط بعوامل داخلية، كبروز قيادات شابة وطموحة تدرك أهمية مسؤولياتها تجاه أمة عربية أنهكتها ثورات الربيع العربي؛ والإمارات تجسد كل هذه المعطيات التي يتغافل عنها كتاب الدكتورة بيانكو.
تقول الدكتورة بيانكو في الفصل الخامس من الكتاب إن استقرار الإمارات السياسي، وازدهارها الاقتصادي، وتماسكها الاجتماعي الداخلي، عوامل مكَّنتها من التكيف سريعًا مع سلبيات مرحلة الربيع العربي، والتصدي بعد ذلك -بنجاحٍ- لقوى الفوضى التي انطلقت من عقالها على امتداد المنطقة العربية.
ولذلك، ولكي تحافظ الإمارات على استقرارها وازدهارها، بذلت جهدًا مكثفًا لإعادة الاستقرار إلى محيطها العربي المنهار؛ وسارعت إلى رفع راية الاعتدال، وحمَّلت نفسها مسؤولية إعادة الاستقرار إلى منطقة عربية دخلت نفق الفوضى، والاضطراب. وكان السبيل إلى ذلك المشاركة بكل ثقلها السياسي لدعم محور الاعتدال والاستقرار العربي المكون من مصر والسعودية والإمارات والبحرين والأردن، والذي نجح في هزيمة قوى الفوضى بحلول عام 2019، وهو العام الذي شهد انتهاء مرحلة الربيع العربي.
لكنْ، على أهمية ما ورد في هذا الكتاب من خلاصات عن الإمارات وبقية دول الخليج العربية، فإنه أيضًا يحتوي على الكثير من المقولات الإشكالية؛ إذ يتعامل مع الإمارات كدولة صغيرة؛ وهذا المنظور قديم وعقيم وعفَّاه الزمن؛ ذلك أن الإمارات الجديدة قوة إقليمية صاعدة، ولا يمكن تصنيفها ضمن قائمة الدول الصغيرة بأي معيار من المعايير الحيوية، بما في ذلك المعيار السكاني والجغرافي والاقتصادي والعسكري والدبلوماسي، والنشاط الإغاثي الإنساني.
وإضافةً إلى ذلك؛ فإن الكتاب يحتوي على العديد من الأخطاء الطباعية، والمغالطات على مستوى المعلومات والبيانات غير الدقيقة والمشكوك في مصادرها، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين الإمارات السبع المكونة لدولة الإمارات، وأسماء شخصياتها القيادية، وإدارة المعركة مع تيار الإسلام السياسي، ومحاكمة أفراد التنظيم السري.
وبعيدًا عن الملاحظات النقدية؛ فان هذا الكتاب دليل آخر على اهتمام الباحث الغربي بلحظة الخليج العربي، وبروز دوله بصفتها مركز الثقل العربي الجديد. وهذا الاهتمام البحثي هو حاليًّا في أعلى مستوياته، ويُتوقع أن يزداد في الأعوام المقبلة؛ ما يستوجب متابعته بحرص، وإجراء قراءة نقدية في مقولاته كلما أمكن ذلك.
نقلا عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة