من خلال عملي، لاحظت أن هناك شكوى متكررة، تكاد تكون وباء العصر، وهي الوحدة المؤلمة والفراغ العاطفي.
وحين أسمع مثل هذه الشكوى من العزاب لا أستغربها، خاصة إن نأت بهم الديار عن الأهل والأحبة لعمل أو دراسة، كما أنهم يشكون وقلوبهم معلقة بأمل أن الزواج سيكون نهاية الألم، ويأملون بأنس بعد وحشة.
لكن حين أسمع ذات الشكوى ممن هم في علاقة زوجية ممتدة، وربما فيها أطفال يملأون البيت، فهذا أمر مقلق، ودعاني تكررها بين شرائح مختلفة، لمزيد من التأمل والبحث عن أصل مشترك قد يكون سببا للخلل، فوجدت أن تلك الزيجات تقوم على علاقة هرمية بين الزوجين، فهي علاقة بين أعلى وأدنى، رئيس ومرؤوس، يتفاوت مظهر التسلط فيها بتفاوت أخلاق الرجال، وتتحد في شعور الرجل بنوع فوقية، تجعل منه آمرا ناهيا، والزوجة مقهورة بالطاعة في كل الأحوال.
والإشكالية في الهرمية أنها تبني حاجزًا بين الزوجين، فتنشأ بينهما علاقة أفقية خدماتية بحتة، أو برجماتية إن شئت، لا عمق وجداني فيها، ولا خلة، فلا تستأنس القلوب لتفيض بما كمن فيها، ولا تسكن الأنفس لبعضها، إذ أن نوع القرب هذا يحتاج معه إلى رفع الحرج عن تعرية النفس أمام الآخر، والكشف عن عوراتها ومكامن ضعفها، دون خشية انتقاص ومهانة، أو نزول منزلة، وهذا لا يتأتى للرئيس مع مرؤوسه، فهو حريص على هيبته لتستمر سطوته، كما لا يتأتى لمقهور أن يسكن إلى من قهره.
وإذا تأملنا السياق القرآني العجيب، لوجدنا أن الله تعالى قد ذكر العلاقة الهرمية بين الرجل وزوجته، في معرض الحديث عن أسوأ ما تنحدر إليه العلاقة الزوجية، وأشد شقاق يطرأ عليها، وأعظم جفوة، تجلت في لحظة خيانة المرأة زوجها، فقال عن زليخة في سورة يوسف: (وألفيا سيدها لدى الباب)، فسمى زوجها، في شدة انحدار العلاقة واتساع الفجوة والسقوط في الهاوية: "سيدها"!
ولا أقول كل علاقة هرمية تنتج خيانة، ولا أقول كل خيانة بسببها، وإنما أقول إن الله تعالى اختار توصيف العلاقة الهرمية في موضع كلامه عن الخيانة، ولا شك أن في ذلك إشارة، وربما تنبيها، في حين أنه جل في علاه، لما أراد وصف القرب والحميمية في العلاقة الزوجية، اختار لفظ الصحبة، وهو لفظ يعبر عن الندية لا الهرمية، فقال تعالى منبهـًا عباده إلى أهوال يوم القيامة، حين ينأى الإنسان بنفسه عن أكثر الناس قربا منه: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ).
فالتعبير عن شدة القرب، والإشارة إلى قوة الرابطة، لا يحتملان سيدا ومسودا، ولا رئيسا ومرؤوسا، بل صاحب وصاحبة، والتعبير عن الجفوة والبعد، لا يحتمل ألفاظ القرب والحميمية، فلا صاحب ولا حبيب، بل سيد ومسود.
وحين نتكلم عن الندية في مقابل الهرمية في العلاقة الزوجية، فهي ندية تفاهم وتناغم، وتكافؤ واحترام متبادل، لا تنافس وتنازع، ولا تتنافى مع اختلاف الأدوار باختلاف الطبيعة، فهي ندية إنسانية بالدرجة الأولى، تقوم بين طرفين اتحدا في النوع الإنساني، واشتركا في التميز بالعقل والإرادة، اللذين هما مناط التكليف الرباني، وعليهما المدار في اتخاذ القرارات والتدابير وإدارة شؤون الحياة والأسرة، وجمع بينهما حاجة مشتركة للسكن للآخر، ليتكاملا على بساط المودة والرحمة.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة، فقد كان إذا أهمه أمر أسرع إلى السيدة خديجة عليها السلام، "زملوني، زملوني"، "دثروني، دثروني"، ولو تعالى عليها لأنف من اللجوء إليها في حال حاجته إلى السند، فكيف يمسي لائذا بها ثم يصبح مستأسدا عليها، وهو صلى الله عليه وآله وسلم سيد الكونين، وملاذ الثقلين، لكنه في بيته كان في خدمة أهله، كما ورد عن السيدة عائشة رضي الله عنها.
والملاحظ أنه عند بدء العلاقة الزوجية الهرمية، لا يشعر الرجل بضرر كبير، إذ أن وجوده في أعلى الهرم، مع تلبية رغباته، يوفر له الكثير من الراحة، ووجود صداقات خارج البيت يأنس بها وتغنيه ولو لمرحلة معينة، فجل حاجياته مجابة، أما المرأة فقد تشعر بوطأة الأمر من البداية إذ أنها الطرف الذي تثقله الطاعة، وتُـقيد حريتها في دخولها وخروجها وكافة شؤونها، ما لم تكن حريتها مقيدة أكثر في بيت والدها فتجد متنفسا في الزواج ولو لحين، وما أن تنتهي حلاوة البدايات، إن وجدت، حتى ترهق النزاعات الطرفين بشكل أو بآخر.
ثم إن الإنسان مع دوران عجلة الحياة، قد ينشغل عن الأصدقاء أو يشغلون عنه، ومع تراكم الهموم وتغير أنواع ما يصادفه في الحياة من مشاكل وصراعات، والنضج العقلي والعاطفي، تشتد حاجته للسكن الزوجي وتتبلور، فإذا بالعلاقة الهرمية تشكل ثقلا على النفس، ولا يجد فيها متنفسًا ولا راحة ولا تخفيف هم، فتزداد الفجوة بين الطرفين، وقد يتفاعل كل من الرجل والمرأة بطرق مختلقة مع الأمر.
أما المرأة، فهي ربما في بداية العلاقة بدأت تنفتح على زوجها وتظهر شيئا من ضعفها، كأن تبكي لأذى اعترضها، أو تظهر جهلا أو عجزا في أمر ما، فإذا قابلها الزوج بجفاء أو انتقاص أو تقريع أو أي نوع من التعامل الذي فيه تعالٍ أو قسوة، ويشعرها بالمهانة، فإنها بعد برهة تنطوي على نفسها وتكتم ما بها، ويصعب عليها الانفتاح من جديد.
وربما كان انطواؤها على نفسها لأسباب أخرى، ككثرة الأوامر المرهقة، أو النزاعات المتكررة بسبب كثرة الممنوعات، أو شدة حدة التسلط التي تضطرها إلى التوسل أو المداهنة في كل مرة تحتاج فيها القيام بأمر مهما كانت بساطته.
وقد يكون الرجل حسن الخلق لطيف المعشر، قائم بأسرته، لكنه يرى كل ضعف عارض، أو ردة فعل على أمر قد أثر في نفسها بما لم يؤثر فيه، بسبب تنشئة أو تجربة سابقة، أو كون ذلك الأمر له اعتبار عندها بشكل لم يتبينه هو، فيقع في نفسه أن ضعفها هذا ذاتي لا عارض، وردة فعلها لا عقلانية، ويرد ذلك إلى ما وقر في نفسه عن الطبيعة الأنثوية، وضعف المرأة وغلبة عاطفتها على عقلها، فيترجح عنده عند كل تصرف لا يفهمه، أن المرأة ضعيفة الأهلية، سفيهة العقل، وأنوثتها تحطها عن مرتبته، فيستأثر بالأمور والقرارات دونها، وقد يخفي عنها الكثير من شؤونه.
وربما زاد على ذلك كثرة غياب الرجل عن بيته، إذ يغلب على العلاقات الهرمية أن يقضي الرجل أكثر ساعات يومه منشغلا عن أسرته، تاركا المسؤولية المنزلية على عاتق المرأة، مع احتفاظه بحق اتخاذ جل القرارات، وذلك لأن الرجل مهما حسن خلقه، يظن أن حاجة المرأة إليه وواجبه معها يقتصر على توفير الماديات من مسكن ونفقة، وبها ينحصر معنى السكن في حقها، ولا يلتفت لحاجتها النفسية والعاطفية والجسدية، وربما لا يرى لها حقا في نفسه، ما يراه لنفسه من حق فيها، ولا يظن أن عليه لها مثل ما يجب عليها من تلبية احتياجاته، وقد ينكر على المرأة تأخر ساعة عن حاجة زوجها، ولا ينكر على الرجل غيابه وإن طال، مهما أضر ذلك بزوجته، ولا يشترط في الغياب أن يكون خارج المنزل، بل قد يغيب وهو في داخله، بعزوف وإهمال، وأيا كان نوع الغياب، فهو أذى، إذ أن الإعراض نوع تعنيف، وهو موجع للنفس.
ويوما بعد يوم تزداد الهوة اتساعا، والمرأة انطواءً، ويشتد عليها الشعور بالوحدة، وتشعر أنها تعطي الكثير من نفسها وروحها في العلاقة، وتبذل لكل فرد في الأسرة على حساب نفسها، ولا تحصل من الاهتمام إلا أقله، مع إهمال للعاطفة، وافتقاد احتواء الزوج، وأنس الخليل، وراحة السكن.
وإذا بلغت مرحلة معينة من حياتها، دون أن تتغير ديناميكية العلاقة، تصل الفجوة بينها وبين زوجها إلى حد تفقد معه أي أمل في إصلاح الأمر، بل ربما حتى لا تطمح لذلك، إذ لم يعد في قلبها مكانا لزوجها لشدة ما تأذت من بعده، وتصل مرحلة لا تحتمل معها شعور الوحدة والضغوطات النفسية الناتجة عن فقدان السكن والأنس، فتصبو إلى فراق الزوج، وتفضل وحدة العزوبية وفقدان السكن دون زوج على الاستمرار في الحياة الزوجية.
وقد يتعجب الناس من ميلها إلى الفراق بسبب الوحدة، مع أن في العزوبية وحدة حسا ومعنى، وليس فيها سكن ولا أنيس، إلا أن النساء يحتملن ألم فقد الزوج بالكلية، أكثر من ألم غيابه في حضوره، فالفقد الناتج عن عدم الوجود، أهون من الفقد في الوجود، إذ أن الأخير فيه شعور بحرمان موجود ضُن به عليها مع شدة حاجتها إليه، فيضاف إلى شعور الفقد، الشعور بالحرمان والهوان، أما الأول فهو الخلو عن شيء غير موجود أصلا، فلا يرتبط الفقد بحرمان وهوان، وإنما بانعدام وجود، وقد تأمل في الدخول في علاقة أخرى تعوضها، أو تقنع بحياتها، وترتاح من استنزاف جهدها فيما يضنيها بلا ثمن، وتسعد بحريتها فتملأ وقتها بأمور تسعدها وترضي طموحاتها، وهي في كل حال ما عادت ملزمة أن تبذل كليتها لمن يبقيها على هامش حياته، فخروجها من التهميش، فيه راحة من عذاب شديد.
أما الرجل، فما أن تثقله الهموم وتطحنه عجلة الحياة، وينضج عقله، وتتبلور عواطفه، حتى تزداد حاجته لمعنىً في السكن فلا يجده عند زوجته، ويجد أن أصدقاءه مهما قربوا أو نأوا فهناك شيء في داخله لم يعد وجودهم يملؤه، ولا يدرك أنه المتسبب إذ أنه اختار بناء العلاقة مع زوجته على أساس هرمي، وأنه بذلك بنى جدارًا فاصلًا بينهما فحرم نفسه من نوع قرب من زوجته هو الآن أشد ما يكون بحاجته، فلم يعد يستطيعه معها ولا يتصور أنه يجده عندها، فكيف الآن يذرف أمامها دمعًا، أو يظهر ضعفًا أو يطمح في قرب، وقد سادها دهرًا، ونأى عمرًا، زاد في بعدهما عقلًا وروحًا، وقد نما كل منهما باتجاهٍ مختلف، فأنى يحصل السكن لمن اختار لنفسه قمة الهرم، وترك صاحبه في قاعدته، ولو أنه مد لها حبل وصلٍ من بداية الحياة ورفعها إليه عوضًا عن أن يترفع عنها، لربما بمرور الزمن ازدادا قربًـا وتآلفـا، ولتعلم كل منهما كيف يعتني بصاحبه، ووصل الارتياح بينهما لإسقاط الكلفة، والقرب بينهما للإفضاء بمكنونات النفس دون توجسٍ ولا نقص.
والرجل إذا وصل هذا الحد، قد لا يحاول إصلاح ما فسد، بل تكون الفجوة قد وصلت قدرًا يصعب معه التقارب، فيلجأ إلى البحث عن بديل في امرأة أخرى، يعرف فيها أنها تأبى العلاقة الهرمية، ويعاملها بندية، ويسعى لعلاقة شراكة معها لا علاقة تسلط، بل قد يصل به الإرهاق إلى أن يسلم إليها زمام أمره ولو لحين.
ولا أقول أن الندية وحدها كفيلة بضمان السكن للطرفين، ولكنها أساس المودة والرحمة والمرتكز الذي تبنى عليه العلاقة التي تهدف إلى السكن، ولا بد بعد وضع الأساس من إنشاء وتعمير، ولعل هذا حديث آخر يحتاج تفصيل.
والحاصل أنه متى استنكف الرجل عن الندية، حرم من علاقة يسكن فيها إلى زوجة تعطف عليه وتخفف عنه أعباء الحياة، وحرمت المرأة من علاقة تسكن فيها إلى زوج يحتويها ويخفف عنها أعباء الحياة، فكيف يطمع من يريد علاقة هرمية بقرب وحميمية، فالسكن اتحاد نفسين، لا يتأتى بافتراق تعالٍ ونزول، فليس بين الأحبة إلا قرب ورفع حرج، ولابن الفارض:
ويَحسُنُ إظهارُ التَجلُّدِ للعِدى ويقبُحُ غَيرُ العَجزِ عندَ الأحِبَّةِ
ولا تبرر الهرمية بالزعم أن حسن الخلق وحده كفيل بتهذيب الرجل وعصمته عن التعدي في العلاقة الزوجية، فقد ذكر أرباب السلوك أن آخر ما يخرج من قلوب الصالحين ورؤوس الصديقين، هو حب الرياسة، وأقول إن الرجل قد يظن أنه تخلص من هذه الشهوة لنأيه عن الولاية العامة، لكنه لا يتحقق بذلك حقيقة إلا حين يتجلى ذلك في بيته وأسرته، فقد يكون الرجل جبارا ولا يملك في الدنيا إلا أهل بيته.
وإذا تأملنا، فإن كمال الرجولة في أن يستطيع الرجل الموازنة بين قوته وضعفه، فيبني علاقة مع زوجته يكون فيها قويا لها، فتأوي إليه، وبها فيأوى إليها، لا عليها فيشقيها ويشقى بها، ولعلها هذه هي الخيرية التي أشار إليها الحديث النبوي (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة