الرابح الأول من المؤتمر هو الدبلوماسية الفرنسية والرئيس ماكرون شخصيا.
كان الرئيس الفرنسي ماكرون محقًّا في قراره بعدم العمل على إصدار بيان مشترك لاجتماع قادة الدول الصناعية السبع الذي استضافته بلاده خلال الفترة 23-25 أغسطس الجاري. فقد أدرك أن حجم الخلافات القائمة بين الولايات المُتحدة بقيادة الرئيس دونالد ترامب وبقية دول المجموعة، أكبر وأعمق من أن يتم احتواؤها في بيان مُشترك مَهما كانت المهارات الدبلوماسية للقائمين بصياغته. ولعله أراد أن يرفع عن نفسه وبلاده الحَرج الذي وقعت فيه كندا التي استضافت اجتماع المجموعة في عام 2018 عندما رفض الرئيس ترامب الموافقة على البيان الختامي للمؤتمر، وتحديدًا البند الخاص بالتغيرات المناخية وحماية البيئة، والبَند الخاص بالاتفاق النووي الإيراني, ولم يكتف بذلك بل غادر الاجتماع احتجاجًا على هذا البيان قبل نهايته. تعلَم ماكرون الدرس، ولم يصدُر بيان ختامي عن الاجتماع، وتم الاتفاق على أن يقوم كل عضو في المجموعة بالتعبير عن رؤيته أو روايته لما تحقق في المؤتمر.
لعل ذلك يُشير إلى أولويات الاهتمام وأجندات العمل لهذه الدول في هذا الوقت. أما عن النتائج فإنها كانت متوقعَة ولا أعتقد أنه كان من الممكن أن يخرج الاجتماع بما هو أكثر من ذلك بسبب طبيعة الخلافات والتوازنات بين دول المجموعة.
واجتماع الدول الصناعية السبع هو مُنتدى تشاوري لم ينشأ باتفاقية أو معاهدة، ولكنه أصبح تقليدًا دوريًّا لهذه الدول على مستوى وزراء المالية الذين قد يجتمعون أكثر من مرة في العام الواحد، وعلى مستوى رؤساء الدول والحكومات مرة سنويا، وانتظمت اجتماعات الدول السبع من عام 1976وهي تضُم أربع دول أوروبية هي: ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا، ودولتين في أمريكا الشمالية وهما: الولايات المتحدة وكندا، ودولة واحدة من آسيا وهي: اليابان.
ويُلاحظ أن المجموعة لا تضمُّ الآن روسيا التي انضمت إليها في 1998، وانتظمت في حضور اجتماعاتها لعدة سنوات وعُرفت وقتها المجموعة باسم مجموعة الثمانية، حتى عام 2014 عندما اندلع الخلاف بين روسيا والدول الغربية بشأن الأزمة الأوكرانية وشبه جزيرة القرم فتم تعليق عضويتها والتوقف عن دعوتها لحضور الاجتماعات. أما الصين وهي ثاني أكبر اقتصاد في العالم فإنها ليست عضوًا في هذه المجموعة.
ومن ثَم، فإنه من الصحيح بأن هذه المجموعة هي تجمع للدول "الغربية" بالمعنى السياسي. أي أنها دول تجمعها نظم سياسية واقتصادية مشتركة، هي ما اصطلح على وصفها بنظُم الديمُقراطية الليبرالية، وتربطها مُعاهدات ومواثيق أمنية ودفاعية ثنائية وجماعية.
ومع ذلك، فإن حجم الخلافات الموضوعية والالتباسات الشخصية بين قادة هذه المجموعة، وخصوصًا مع الرئيس ترامب كثيرُة ومتنوعة، مما أدى إلى محدودية النتائج التي توصل إليها المؤتمر. وربما يكون الموضوع الوحيد الذي اتفق فيه المشاركون على إجراء محدد هو تقديم مساعدات مالية بمقدار 22 مليون دولار أمريكي لإطفاء حرائق غابات الأمازون في البرازيل، وهي المساعدة التي رفضتها البرازيل في اليوم نفسه.
أما القضايا الأخرى فقد تعددت الرؤى بشأنها واختلفت الروايات عما تم بخصوصها في المؤتمر. كانت أولى القضايا هي الملف النووي الإيراني والزيارة المفاجئة لوزير الخارجية محمد جواد ظريف للمدينة التي عُقد فيها المؤتمر واجتماعه بوزيري الخارجية والمالية الفرنسيين، وبحضور ممثلين من بريطانيا وألمانيا ثُم بالرئيس الفرنسي. كان من الواضح أن غالبية المُشاركين لا يَرغبون في اتخاذ إجراءات يكون من شأنها تصعيد الموقف المُتوتر في المنطقة، وأنهم بينما يشاركون الولايات المُتحدة هدف عدم امتلاك إيران للسلاح النووي فإنهم يسَعون إلى تحقيق ذلك من خلال المُفاوضات والطرق الدبلوماسية والتي قامت فرنسا بدور رئيسي فيها، والتي لم يكُن ترامب راضيًا عنها تمامًا.
وفي شهر يوليو الماضي، عندما نشرت وسائل الإعلام أن الرئيس ماكرون يقوم بالوساطة بين أمريكا وإيران. علق الرئيس ترامب بأن "مقصد الرئيس ماكرون طيب"، ولكن "لا أحد يتحدث باسم الولايات المتحدة سوى الولايات المُتحدة".
وتكرر موقف مشابه هذا الأسبوع، فعندما تردد أن ماكرون تباحث مع ظريف باسم مجموعة الدول السبع علق ترامب بأنه لم يوافق على أن يتحدث أحد باسم المجموعة، فاضطر الرئيس ماكرون إلى توضيح أنه يتفاوض باسم فرنسا بناءً على المشاورات التي أجراها مع قادة الدول المشاركين في الاجتماع. وحدثت أيضًا واقعة غريبة تعددت تفسيراتها، فعندما صرح ماكرون بأنه أخبر الرئيس الأمريكي مُقدمًا بتوجيه الدعوة إلى ظريف للحضور، وأنه أعلمه شخصيًّا بذلك فإن رد فعل ترامب كان: "لا تعليق".
هناك إذًا اختلاف بين أمريكا وحلفائها بشأن إدارة الخلاف مع إيران. فواشنطن تسعى لمفاوضات ثنائية مُباشرة مع طهران لإبرام اتفاق جديد، بينما تعمل الدول الأوروبية على إنقاذ الاتفاق الحالي-الذي تم الاتفاق عليه عام 2015- والوصول إلى صيغة مقبولة للجميع. ولابد هُنا من تسجيل دلالة مُشاركة ممثلين بريطانيين في جلسة المباحثات مع ظريف، فبريطانيا هي أقرب حليف أوروبي وهي الدولة الوحيدة -من أعضاء المجموعة- التي أعلنت مشاركتها في العملية العسكرية الأمريكية لحماية حرية التجارة في الخليج العربي ومضيق هرمز. ورغم هذه العلاقة الوثيقة فإنها انضمت إلى فرنسا وألمانيا في هذا الاجتماع. فلم يكن من المتصور مشاركة بريطانيا دون تشاور مسبق مع أمريكا.
ظهرت الحقيقة بعد ظهر اليوم الثالث والأخير من المؤتمر عندما صرح ترامب بأن الرئيس ماكرون أحاطه علما بكل ما ينوي القيام به من مبادرات، وأنه لم يعترض على هذا التحرك، فتمت دعوة ظريف والتباحث معه. ثم ظهرت الحقيقة أكثر في تصريح ماكرون بأن روحاني على استعداد لمقابلة ترامب، وتعليق ترامب بأنه إذا تهيأت الظروف المناسبة فإنه ليس لديه مانع من مقابلته في الأسابيع المقبلة.
ومن الأرجح أن هذه التصريحات كانت مرتبة بين الرئيسين ماكرون وترامب، وكذلك مع الإيرانيين، وأنه كان ينبغي عدم رفع مستوى التوقعات، فقد حرص ترامب على ربط موقفه بأن يكون الإيرانيون "لاعبين جيدين" دون أن يحدد ما يقصده بذلك. كما أن المرشد الأعلى في إيران لم يبد رأيه بعد؛ لذلك فإن علينا انتظار ما سوف تأتي به الأحداث.
والقضية الثانية هي الحرب التجارية مع الصين، والتي كشف الاجتماع عن خلافات مماثلة بين أمريكا وبقية دول المجموعة. فمن ناحية حرص الرئيس ترامب على تأكيد استمراره فيها، ويدل على ذلك أنه عندما حدث خطأ في ترجمة أحد تصريحاته في لقاء صحفي مما أعطى الانطباع بأنه يتراجع عن موقفه، وتبنيه لخط أقل تشددًا، سارع البيت الأبيض بإصدار بيان يؤكد فيه أن موقف الرئيس ثابت ولم بتغير. بل علق هو على ذلك بأنه نادم على أنه لم يرفع الرسوم الجمركية بقدر أكبر.
ومن ناحية أُخرى، فإن دول المجموعة الأُخرى لم تكُن على استعداد للمُشاركة في هذه الحرب من منطلق مصالحها القومية، إما بسبب العلاقات الاقتصادية والتكنولوجية الوثيقة التي تربطها بالصين، وإما تداعيات الحرب التجارية السلبية بين أكبر اقتصادين في العالم على حركة التجارة الدولية. يدُل على ذلك أن دول المجموعة بما فيها بريطانيا لم تُساير الولايات المُتحدة بشأن موقفها من شركة الاتصالات الصينية هواوي، ولم تمنعها من العمل فيها بحجة حماية الأمن القومي.
القضية الثالثة هي خروج المملكة المُتحدة من الاتحاد الأوروبي، والذي اتخذ فيه الرئيس ترامب موقفًا مُدعمًا لرئيس الوزراء الجديد "بوريس جونسون"، رغم علمه بالتوترات الموجودة بينه وبقية الدول الأوروبية أعضاء المجموعة وعلى رأسها فرنسا، فوصفه خلال المؤتمر بأنه -أي جونسون- لا يحتاج إلى نصيحة مِنه، وأنه الرجل المُناسب في الوقت المُناسب، وأنه سيكون من أفضل رؤساء الوزراء في بريطانيا. كما أعلنَ أن الولايات المُتحدة سوف تُبرم اتفاقية تجارة حُرة كُبرى مع بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. وتمثل هذه التصريحات دعمًا لموقف جونسون الذي حَدد يوم 31 أكتوبر 2019 كتاريخ للخروج من الاتحاد باتفاق أو بدون اتفاق. أعلن ترامب عن هذا التأييد في الوقت الذي صرح فيه ماكرون بأن الوقت المُتاح حتى هذا التاريخ لا يسمح بالتفاوض لإبرام اتفاقية جديدة.
تعمد ترامب الغياب عن جلسة المؤتمر الخاصة بالتغيرات المناخية بسبب الخلافات العميقة بين أمريكا وبقية أعضاء المجموعة بشأنها.. ولم يُناقش المؤتمر الموقف المتوتر في المنطقة العربية والشرق الأوسط سواء في سوريا أو العراق أو لُبنان أو اليمن. ولم تحدث مناقشة حول مُكافحة الإرهاب في ضوء تصاعد نشاط القاعدة وداعش في أكثر من بلد.
ولعل ذلك يُشير إلى أولويات الاهتمام وأجندات العمل لهذه الدول في هذا الوقت. أما عن النتائج فإنها كانت مُتوقعَة، ولا أعتقد أنه كان من الممكن أن يخرج الاجتماع بما هو أكثر من ذلك بسبب طبيعة الخلافات والتوازنات بين دول المجموعة. والرابح الأول من المؤتمر هو الدبلوماسية الفرنسية والرئيس ماكرون شخصيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة