الحكمة الذائعة منذ الإعلان عن "نهاية التاريخ" من قبل فرانسيس فوكاياما، قبل ثلاثة عقود.
هي أن العالم يزداد تقارباً وتكاملاً ووحدة تحت الراية الغربية ذات السمات الديمقراطية والليبرالية والرأسمالية.
ومرت مياه كثيرة تحت الجسور الفكرية في الدنيا، وتراجع فوكاياما نفسه عن النظرية مستسلماً لنظرية "صراع الحضارات" التي ترى أن الجدل التاريخي سوف يظل مستمراً، وما حدث أنه لن يكون بين الاشتراكية والرأسمالية وإنما سوف يكون بين حضارات سبع حددها على أساس الدين. وبينما كان العالم كله قد بات واحداً في وحدة مندمجة في النظرية الأولى فإنه بات مندمجاً في كتل كبرى تكون العقيدة والثقافة والهوية هي أساس قيامها في النظرية الثانية.
علماء العلاقات الدولية على اهتمامهم المؤقت ومشاركتهم في ذيوع النظريتين سرعان ما جاءت دراساتهم التجريبية دالة على أن العالم بالفعل يندمج يوماً بعد يوم بفعل آليات التكنولوجيا التي سمحت باتصالات واسعة بين بني الإنسان لم تكن لها سوابق في التاريخ البشري.
"الثورة الاتصالية" نقلت المعرفة بالحضارات والثقافات حتى باتت الموسيقى والفنون السينمائية في متناول يد جميع الأمم. الاقتصاد قام بدوره من خلال آليات التجارة والمال وأسعار العملات، والنمو الاقتصادي العالمي، مع تسارع عمليات الانتقال والهجرة بين الدول.
التنظيم الدولي في كثير من الأحيان جعل حركة "البريد" و"الطائرات" ولغة البنوك والمطارات واحدة في كل دول العالم. الخبرات الدولية في معظم الأحوال صارت واحدة، فمعظم الدول تسير سياراتها على يمين الطريق، كما أنها تتبع إشارات المرور "الأحمر والأصفر والأخضر"، وفي البحار فإن إشارات الاستغاثة لا يختلف فيها عربي على عجمي أو روسي على أمريكي.
الأمثلة بعد ذلك كثيرة حول التوافق في سبل الحياة، فالمولات أو أسواق التسوق لا تختلف حالها من دولة إلى أخرى. وفي الأنشطة الرياضية فإن الاتحادات الدولية والأولمبية لها قواعد عالمية تلتزم بها دول العالم حتى في تسيير دوراتها الرياضية المحلية.
علماء العلاقات الدولية مع إدراكهم لكل ذلك، فإنهم لم يتجاهلوا الحقيقة المضادة التي ترى أنه مع كل ما تحقق فإن وجود الوحدة العالمية شجع كثيراً الوحدات الأصغر داخل الدولة سواء كانت من أعراق أو ثقافات أو أديان ومذاهب أو ألوان أو قبائل أن تكون أكثر ميلاً إلى الخروج على الدولة وليس العالم بالضرورة. والحقيقة الكبرى التي حكمت العلاقات الدولية منذ بداية القرن التاسع عشر كانت دائما ظهور الدولة القومية، ولم تكن هناك صدفة أنه مع الاتساع الكبير في عملية "العولمة" الممثلة للاندماج العالمي صاحبتها عمليات تفكيك دامية ظهرت أولا في الاتحاد السوفييتي الذي تفكك إلى ١٥ دولة، حاولت كل واحدة منها أن تجد طريقها الخاص إلى العالم. وثانياً جاء انهيار يوغوسلافيا وانكسارها بين ست دول. وثالثا أن عملية الانقسام هذه كانت سابقة للعولمة وكانت راجعة إلى تطبيق حق تقرير المصير الذي جعل الهند وكوريا ودولاً أخرى تنقسم تبعا لما فيها من ألوان مختلفة. ورابعاً أن أكثر التجارب تعبيراً عن "العولمة" كان تجربة الاتحاد الأوروبي التي توسعت من ست دول حتى وصلت إلى ٢٧ دولة شاملة دول أوروبا الشرقية مع مطلع القرن الحادي والعشرين. وبينما ظنت أوروبا أنها قد تعدت عهود التقسيم وجدت بريطانيا تخرج من الاتحاد في أعقاب استفتاء عام "بريكست" الذي لم يعكس فقط ضيقاً بريطانياً من الاتحاد في أوروبا، وإنما فلسفة متكاملة تناطح العولمة متبعة في ذلك الفلسفة التي تبنتها الولايات المتحدة أثناء إدارة الرئيس دونالد ترامب.
المدهش في الأمر أنه في أعقاب هذا الخروج، فإن اسكتلندا في المملكة المتحدة أصبحت أكثر عزماً على الخروج من المملكة لكي تستمر داخل الاتحاد الأوروبي، وفي الولايات المتحدة ذاتها فإن ولايات أمريكية صدرت منها صيحات الانفصال عن الاتحاد الأمريكي.
هذه الصورة وتلك تشير بقوة إلى أننا إزاء عمليتين للاندماج والوحدة في ناحية، والتفكيك والانفصال في ناحية أخرى. النظرية الأولى تستند إلى أنه سوف يكون من الطبيعي أن يقترب الإنسان من أخيه الإنسان كلما زاد كلاهما معرفة واتصالاً واعتمادا على الآخر في الحصول على حاجاته الأساسية. وما يجري بين الإنسان يجري بين الدول، إذ بات من الطبيعي أن تتخصص كل دولة في مزاياها النسبية ومن ثم ومع المنافسة تتولد المصالح المشتركة التي في النهاية تجعل الإنسان أكثر سعادة. النظرية الثانية ترى العكس تماماً، إذ يكون الاقتراب والاندماج سبيلاً إلى تحول المنافسة إلى عداء والعداء إلى صدام وحروب وأزمات من كل نوع. وبشكل ما فإن كلتا النظريتين تتفق في أن الحرية والاختيار هما اللذان يقرران في النهاية المدى الذي يصل إليه الإنسان في الاقتراب من الآخر أو الابتعاد عنه؛ ولكن عملية الاختيار هذه تحديداً هي التي تخلق ظروفاً ومواقف صراعية.
وفي العموم فإن النظرية الأولى تبنتها الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة والتي قدمت نموذج الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي كأمثلة منيرة لعمليات الاندماج والتكامل، ومن ثم التقدم بصفة عامة.
وفي الحقيقة فإنها جعلت من نظريتها سبيلاً لكل دول العالم للوصول إلى ذات النتيجة، ومن خلالها بات معيار الحكم على دول العالم المختلفة يقوم على المرجعيات الليبرالية والديمقراطية والرأسمالية دون نظر إلى ظروف التطور ودرجته في دول العالم المختلفة. واستنادا إلى ذلك كان الموقف الغربي من الاتحاد السوفييتي وتشجيع تفكيكه مع اندماج ما تفكك في المعسكر الغربي سواء كان في حلف الأطلنطي أو الاتحاد الأوروبي. واعتمادا على نفس النظرية كانت النظرة إلى ما سمي "الربيع العربي" الذي كان طريقاً لتفجير الدول الوطنية العربية أو تقليصاً من تماسكها كما حدث في العراق وسوريا، أو تهديد هذا التماسك في دول عربية أخرى.
"الديمقراطية" و"حقوق الإنسان" لم تعودا نظريات سياسية عن نظم الحكم وإدارة الدولة، وإنما أسلحة سياسية وإعلامية ودبلوماسية للتعامل مع دول العالم غير الغربية التي تمر بمراحل عديدة من التطور السياسي والاقتصادي، تختلف عن تلك التي سارت فيها الدول الغربية التي شملت الاستعمار وغزو الدول الأخرى.
الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن أكد، في حديث إلى وزارة الخارجية الأمريكية، قبل أيام، أهمية "حقوق الإنسان" ومعارضة النظم "التسلطية"، واستخدم المناسبة لإثبات إخلاصه للأفكار بإدانة الانقلاب العسكري في ميانمار وسجن الناشط والمعارض الروسي "أليكسي نافالني" وعزمه على التدخل للتأكيد على القيادة الأمريكية في العالم من خلال عقد مؤتمر عالمي للدول "الديمقراطية"، بينما تقف بقية دول العالم خارجه.
القيادة هنا ليست "أخلاقية" تعقد مؤتمرها داخل الأمم المتحدة كتنظيم دولي معترف به، وإنما سياسية واستراتيجية كذلك عندما تغفل الظروف والشروط المختلفة التي تعيش دول العالم في ظلها، فضلاً عما تولده من حروب باردة جديدة؛ فما يجري الدفع له في واشنطن من زاوية عودة الولايات المتحدة إلى عمليات الهندسة السياسية لدول العالم، مع اعتقاد جازم بأن ما تتجه له العاصمة الأمريكية من أفكار حول إدارة البشر لشؤون دنياهم؛ لا يمثل عودة إلى قديم العقد الأول من القرن الحادي والعشرين الذي ظنت فيه واشنطن أن بقدرتها وحدها ليس قيادة العالم وإنما إعادة تشكيله أو تفكيكه كما حدث من قبل، وكانت له تكاليفه الدامية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة