دفعني ذلك الصباح الكاليفورني البارد للغاية إلى أن ألج أول مقهى يصادفني بحثاً عن الدفء وعن قهوة «تفك الصوع»
دفعني ذلك الصباح الكاليفورني البارد للغاية إلى أن ألج أول مقهى يصادفني بحثاً عن الدفء وعن قهوة «تفك الصوع»، وقعت عيناي وأنا أهمّ بالجلوس على شاشة كمبيوتر لسيدة معها طفلتان على الطاولة المقابلة، كان العنوان كبيراً وجميلاً لذلك الموقع الذي كانت منهمكة بملء فراغاته الكثيرة رغم تبرّم طفلتيها، كان عنوان الموقع «بداية نقيّة»!
بداية نقية! يا له من عنوان ويا له من أمل، وكم هم أولئك الذين يحتاجون فعلاً أن يُمنَحوا الفرصة ليبدأوا تصحيح مسارهم ومساعدتهم على دفن أخطائهم وخطاياهم وأن يجدوا من يسمح لهم ليكتبوا بداية نقية من دون صفات مسيئة مُجترّة مما هربوا عنه ونجعلها كالوشم الذي لا تزيل أثره الأيام، بداية نقية.
كما يعفو رب العالمين لمن يستغفر ويعود كيوم ولدته أمه، من دون أن يُقال «هذا فلان الذي كان مسجوناً» أو «فلانة المطلقة» أو «هذا الذي كان مدمن مخدرات» وقِس عليها الكثير من الصفات التي يجعلها المجتمع أحياناً كابوساً يلاحق أولئك البائسين الذين يجتهدون في التواري عن الأنظار على الدوام!
لم يأتِ أحدٌ على هذه الدنيا وهو يريد أن يكون مدمناً أو مؤذياً للآخرين ولم يفطن بدايةً لأن يتبع فكراً ملوثاً أو معتقداً منحرفاً، الجميع كان يحلم في طفولته بحياةٍ جميلة سعيدة تشبه تلك القصص الأسطورية التي قرأها أو رآها على شاشة الرسوم.
لكن ذهبت به طُرُق الحياة لأسباب كثيرة بعيداً عن تلك الأحلام ولم ينتبه إلا بعد فوات الأوان، المهم أنّه انتبه وعاد، سواء كان ذلك طواعيةً أو تحت ظروف قاهرة أو جراء عقوبة مستحقة!
من العدل أن نترك تلك «الممحاة» لسابق عهده موجودةً إنْ صَدَق الإنسانُ في رغبة التغيير عن ماضيه السيئ، فليس من حق أحد أن يُصادر حق شخصٍ آخر في العودة للحياة من بابها الصحيح.
وكفى بالإنسان معاناةً محاولاته للتغيير وصراعه الداخلي الكبير وانكساره مرات كثيرة مع كل محاولة يريد بها أن يخرج من مساره الشخصي السيئ أو عثراته الوظيفية أو اخفاقاته النفسية، فلا يعقل أن يجد بعد هذا الحِمْل النفسي الثقيل مجتمعاً غير متقبّلٍ لاحتوائه من جديد، فالشخص الذي لا يرى أملاً أو مكاناً «طبيعياً» له في مجتمعه لن يكون مهماً له أي شيء بعدها.
وكثيراً ما كان اليأس وانسداد المستقبل وقودَ ايذاء نفسه والآخرين معه، فمن لا يملك قيمة يحملها أو قيمة يخشى عليها كأسرة أو مصدر رزق أو كيان لا يعدو أن يكون قنبلة موقوتة وسلاحاً جاهزاً للاستعمال من الجماعات المتطرفة كما يقول مثلنا الشعبي: «شرود ولاقت منكاس»!
لدى المجتمعات المتمدنة رغبةٌ دائمة لبث الأمل في نفوس المتعثرين، سترى تشجيعاً لكل شخص شارف على اليأس، وستسمع في المقاهي رفعاً لروح شخصٍ تبدو عليه ملامح الحزن ربما فقد وظيفة أو قد تكون فقدت عائلة بجملةٍ مألوفة مكررة: You are not a finished product «أنت لست مُنتَجاً منتهياً»، فالحياة مستمرة والفرص كثيرة ويومٌ يُبْكيك سيتلوه يومٌ يُسعِدُك.
المهم أن يُمَدّ لذلك الشخص طوقُ نجاةٍ مهما كان البحر هائجاً من حوله، امتنانه لمجتمعه سيكون مضاعفاً إنْ وقف أفراده معه وأشعروه بأنه ليس وحيداً وأنّ أيديهم ممدودة له طالما سعى لتغيير ماضيه بواقعٍ أجمل يتفاعل ويتناغم مع واقع من حوله.
في بلادي الحبيبة مثال جميل على ذلك الدمج المطلوب في المجتمع و«محو» التركة القديمة من خلال المنشآت الإصلاحية والعقابية والتي قدّمت مفهوماً جديداً للسجون، والتي ما زالت رديفاً للرعب والابتزاز وانخراط السجين مع عصابات أكبر وأشد جُرماً كما هو الحال في أغلب سجون العالم وأولها في الولايات المتحدة الأمريكية.
فلا يخرج السجين في الأغلب إلا وهو أخطر بمراحل كثيرة على المجتمع مما كان عليه، ولا يخرج منه إلا ليعود له من جديد، بينما أعادت الإمارات تأطير مفهوم السجون وغيّرت بدايةً الاسم إلى مسمى المنشآت الإصلاحية والعقابية حفظاً لكرامة البشر.
فالعقاب المراد منه المجازاة على الخطأ أو الجرم المرتكب وليس لذات الإيذاء، والإصلاح رديف رئيسي لتهيئة السجين وتطوير قدراته الشخصية حِرَفياً وفكرياً ودينياً وبدنياً لكي يكون جاهزاً للاندماج مع مجتمعه بشكل ايجابي فور خروجه.
فبيئة المنشآت أقرب للمجمعات السكنية المحترمة وبها مرافق رياضية وورش حرفية ورعاية صحية جيدة وبرامج توعوية ومحاضرات دينية وثقافية ودورات مهنية مكثفة، وتقام معارض لبيع منتجات النزلاء الحرفية ومنهم من يعمل في خدمات تصنيع اللوحات المرورية وبراتب مجز وبظروف عمل وبيئة مثالية.
إضافة إلى إدراجهم في برنامج «دبلوم سوق العمل» بالتعاون مع كليات التقنية العليا والذي يستمر لمدة عامين من الدراسة المكثفة يستطيع من خلاله وبالتنسيق مع الكليات أن يحصل النزيل المفرَج عنه على وظيفة مناسبة تجعله عنصراً فاعلاً في مجتمعه.
ليس من حق أحد أن يُغلق بابَ عودةٍ لشخصٍ مخطئ أو يقتل أملاً لشخص منكسر، فربما لو مررنا بما مرّوا به لكنّا مثلهم كما تقول حكمة الهنود الحمر الشهيرة: «لا تنتقد مِشْيَة إنسان حتى تسير بحذائه ميلاً كاملاً»، وحدهم الرائعون، ووحدهم الكبار فعلاً من يرون بذرة خير في كل انسان، لن تجدهم يدقون إسفيناً في نعش أحد، لن يوصدوا الأبواب ولن يُعلّقوا المشانق.
بل على العكس ستجدهم مستعدين لفتح صفحات جديدة لكل من يريد التغيير للأفضل وكل من أدرك سوء مسلكه أو وصلت خُطاه إلى طريقٍ مسدود، أمّا الصغار فهم من يُغلقون الأبواب في أوجه الآخرين وكأنهم حاملو صكوك الغفران!
* نقلا عن صحيفة البيان
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة