تتجاهل الدوحة أي طلبات لاعتقال أو توقيف القطريين المتهمين بتمويل الإرهابيين، بل شملت الرعاية أيضا الإرهابيين وممولي الإرهاب المقيمين في قطر
لا تبدو الصورة أكثر وضوحا، فالدويلة التي تتفاخر بوجود قاعدتين أمريكيتين على أرضها لحمايتها من أشقائها، هي نفسها التي توفر بيوتا آمنة ومخابئ معدة بعناية لعتاة الإرهابيين القتلة ومن لف لفهم ممن يوفرون لهم غطاء فكريا وشبكة أمان سياسية بتوقيعات مختلفة.
ويكيليكس كانت وثّقت بعضا من هذه التفاصيل المخجلة في برقيات من السفارة الأمريكية في الدوحة توثق لاستخدام مزرعة لوزير الداخلية السابق مقرا لضيافة خالد شيخ محمد العقل المدبر لهجمات 11 سبتمبر وبعلم وزير الداخلية رئيس الوزراء الحالي. الموقع وثّق أيضا "غسيل الإرهاب" من خلال تمرير إرهابيين إلى دول مجاورة كالسعودية ضمن أعداد كبيرة من مهاجرين آسيويين يتم تهريبهم تحت غطاء الاتجار بالبشر والعمالة المتسللة.
لكن الدور الأخطر لا يبدأ هنا، فما يتم ترديده والحديث حوله همسا منذ أكثر من عشر سنوات أصبح اليوم وقائع معلنة وشهادات موثقة: نعم، فقطر هي اليوم البنك المركزي للإرهاب وحان الوقت لهذه الازدواجية المريضة في المواقف والسياسة أن تتوقف.
تتجاهل الدوحة أي طلبات لاعتقال أو توقيف القطريين المتهمين بتمويل الإرهابيين، بل شملت الرعاية أيضا الإرهابيين وممولي الإرهاب المقيمين في قطر
وبين رسالة موثقة لوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة السيدة كلينتون عام 2009 وشهادة علنية متلفزة من وزير الدفاع الأسبق روربرت جيتس، وشكاوى عديدة من مسؤولين أمريكيين سابقين وعاملين، تبدو صورة العلاقة بين الدوحة والإرهاب واضحة بكامل تفاصيلها، فالدويلة القطرية تغض الطرف تماما عندما يتعلق الأمر بحرية حركة كثير من الإرهابيين، كما أنها تتغاضى أيضا عن حركة الأموال إلى التنظيمات المعنية ويبدو أن بعض جمعياتها الخيرية استخدمت كغطاء لغسيل الأموال المرسلة للإرهابيين وتمريرها تحت غطاء المساعدات الإنسانية. وهذه جريمة مضاعفة فعدا عن تمويل الإرهاب هناك مخاطرة عالية بتعرض عمل الجمعيات الخيرية والمنظمات الإنسانية في مناطق النزاعات للخطر لأنها ستصبح محل شك وشبهة أن تكون تستخدم لنقل أموال على الطريقة القطرية.
المفارقة أن هذه "الدوحة" كانت قد أنقذت نفسها من مقاطعة خليجية صارمة منتصف شهر سبتمبر عام 2014 حين وقّعت مع دول مجلس التعاون وبمشاركة أمريكية على ميثاق جدة الذي التزم موقعوه بمضاعفة جهودهم الرامية لوقف تمويل الإرهاب وعدم التساهل مع عمليات جمع الأموال للتنظيمات الإرهابية وتقديم مرتكبي ذلك للمحاكمة. قطر وحدها من شذ عن الاتفاق، فأصبح التمويل أسهل وربما أكثر علنية، ولا يزال شخص مثل عبدالرحمن النعيمي المطلوب عالميا لتمويله الإرهاب.. لا يزال يحظى بحصانة خاصة ورعاية أميرية دافئة في عاصمة الإرهاب العالمي.
ولم تأبه قطر أيضا بقرار مجلس الأمن الدولي الملزم حسب الفصل السابع والذي منع في ديسمبر 2014 تسهيل حركة المقاتلين الأجانب وتمويل الإرهاب، وأجاز التدخل بالقوة لإنفاذ مقتضاه.
ولذر الرماد في العيون، كانت الدوحة أصدرت تشريعات وطنية لتجريم تمويل الإرهاب وغير ذلك من أنشطة تساند الإرهاب بمختلف أشكاله، إلا أن الواقع يقول إن تلك التشريعات حبر على ورق. والحالات القليلة التي تحركت فيها الدوحة كانت تحت ضغط أمريكي صارم لتسليم أو ترحيل أشخاص معروفين بالاسم والعنوان. وفيما عدا ذلك يكون التملص هو الأسلوب المفضل.
ورغم وجود قوانين قطرية تجرم تلك الممارسات، إلا أنها نادرا ما تفعّل، وفقط عندما يطلب الأميركيون ذلك.
وتقوم تلك الجماعات بنشاط جمع الأموال بحرية، كما تظهر إعلانات التبرع بأرقام مؤسسات قطرية وأرقام حسابات في بنوك قطرية.
وفي هذا السياق، يقول تقرير حديث لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطية: "ترى واشنطن أن قيادات بالقاعدة تلقوا دعما من مانحين قطريين أو مقيمين في قطر، وذلك بالإضافة إلى القاعدة في شبه الجزيرة العربية (الناشطة في اليمن والسعودية)، وحركة الشباب (الصومال)، والقاعدة في شبه القارة الهندية والقاعدة في العراق (التي أصبحت داعش)".
وهذا التقرير صدر في جزأين أصدرتهما المؤسسة تحت عنوان: "قطر وتمويل الإرهاب"، ولم تكن مفاجأة للمراقبين أن الجزء الأول منه خصص للعقدين الأخير من القرن الماضي والأول من القرن الحالي وهما فترة ذهبية في قطر بالإرهاب تحت رعاية الأمير السابق حمد بن خليفة، بينما خصص الجزء الثاني لفترة تولي الأمير الشاب والضعيف نسبيا تميم بن حمد منذ 2013 حتى يناير من هذا العام.
ومن بين التفاصيل المهمة التي أوردها التقرير، قائمة بأسماء العديد من القطريين والمقيمين في قطر المتورطين بشكل مباشر بتمويل الإرهاب باستخدام أموال قطرية، بينما يربط التقرير في هذا السياق مثل عشرات التقارير الدولية الأخرى بين دعم قطر للإخوان والتنظيمات المتطرفة والجماعات الإرهابية، وبداية حكم الأمير السابق إثر انقلابه الأبيض على والده منتصف التسعينيات.
والغريب أن كل الأشخاص الذين وردت أسماؤهم في التقارير الرسمية الأمريكية ودراسات مراكز البحث مصنفون كإرهابيين، إما أمريكيا أو دوليا (الأمم المتحدة)، ويخضعون لعقوبات دولية وأمريكية. وعلى سبيل المثال، فقد اعتقلت الدوحة مواطنها خليفة محمد تركي السبيعي لستة أشهر فقط، بعد ضغوط أمريكية، ثم أفرجت عنه رغم تصنيفه الأمريكي والعقوبات عليه.
وكان هذا الشخص قدم دعما ماليا للإرهابي الباكستاني خالد شيخ محمد، قيادي القاعدة المعروف، وذلك وفقا لصحيفة "التلجراف" البريطانية التي نقلت معلوماتها عن وثائق مكافحة تمويل الإرهاب لوزارة الخزانة الأمريكية. وقد عاد السبيعي إلى عمله السابق في المصرف المركزي القطري، حيث استأنف مهمته لـ"تمويل جماعات إرهابية" تقاتل في سوريا والعراق.
وتظهر وثائق الخزانة الأمريكية وجود صلات بينه وممول إرهابي متهم بتوفير التمويل لإحدى الجماعات المنبثقة عن تنظيم القاعدة، كانت تخطط لتفجير طائرات باستخدام قنابل مصنعة على شكل عبوات معجون أسنان.
وإضافة للسبيعي، تضم قائمة وزارة الخزانة الأمريكية، القطري سليم حسن خليفة راشد الكواري "37 عاما" المتهم بتحويل مئات الآلاف من الدولارات لتنظيم القاعدة عبر شبكة إرهابية، وتتهم الإدارة الأمريكية الكواري بالعمل مع قطري آخر يدعى عبدالله غانم الخوار "33 عاما" بشبكة تمويل، ويبدو أن الأخير قام بتسهيل انتقال عناصر إرهابية، بل أسهم في الإفراج عن عناصر من القاعدة في إيران. كما قام كلاهما بتسهيل السفر للمتطرفين الراغبين في السفر إلى أفغانستان للقتال هناك.
والكواري على ما تذكر "التلغراف" عمل في وزارة الداخلية القطرية وقت وزيرها الشيخ عبدالله بن خالد آل ثاني، الذي ورد اسمه في تقرير "لجنة هجمات 9/11 الأمريكية" باعتباره سهّل هروب خالد شيخ محمد الذي كان مقيما في قطر. ومعلوم أن وثائق ويكيليكس تفيد بأن خالد شيخ محمد كان في الواقع مختبئا في مزرعة الشيخ عبدالله بن خالد بمعرفته شخصيا ومعرفة مساعده آنذاك وهو وزير الداخلية الحالي.
لكن أبرز الأسماء القطرية المسجلة على اللائحة السوداء في الولايات المتحدة والأمم المتحدة، عبدالرحمن بن عمير النعيمي، المتهم بتحويل 1.5 مليون دولار شهريا إلى مسلحي القاعدة بالعراق، و375 آلاف جنيه لقاعدة سوريا، وقد سبق لهذا الشخص أن حصل على عفو أميري خاص ورعاية خاصة وتم تكليفه بتأسيس منظمة الكرامة لحقوق الإنسان التي تعتبر واجهة لغسيل وتمرير الأموال إلى المنظمات الإرهابية.
وبين الأسماء أيضا، عبدالعزيز بن خليفة العطية، وهو ابن عم وزير الدفاع القطري الحالي خالد العطية، وقد سبق أن أدين في محكمة لبنانية بتمويل منظمات إرهابية دولية، وبأنه على صلة بقادة في تنظيم القاعدة. وأصدرت المحكمة حكمها على العطية غيابيا "إذ كانت السلطات اللبنانية أفرجت عنه بعد أيام من اعتقاله في مايو 2012، نتيجة تعرضها لضغوط من قبل الحكومة القطرية التي هددت بترحيل آلاف اللبنانيين من أراضيها"، حسب ما ذكرت التقارير الصحفية.
وكانت وسائل إعلام لبنانية ذكرت وقتها أن العطية التقى في مايو 2012 بكل من عمر القطري وشادي المولوي، وهما عنصران قياديان في تنظيم القاعدة، وقام بمنحهما آلاف الدولارات.
وفيما تتجاهل الدوحة أي طلبات لاعتقال أو توقيف القطريين المتهمين بتمويل الإرهابيين، شملت الرعاية القطرية أيضا الإرهابيين وممولي الإرهاب المقيمين في قطر. ومن بين أبرز هؤلاء المدعو أبو عمر القطري "اسمه الأصلي عبدالملك" أحد أبناء "أبو عبدالعزيز القطري"، زعيم تنظيم "جند الأقصى" المصنف جماعة إرهابية، والمتهم هو وشقيقه أشرف بجمع الأموال في قطر للتنظيمات الإرهابية، ويحمل كلاهما هوية قطرية لتسهيل حركتهما. وعمل عبدالملك على تحويل أموال جمعها من قطر إلى تنظيم القاعدة عبر إيران، التي يشير إليها تقرير "قطر وتمويل الإرهاب" مع أسماء رجال أعمال من دول أخرى ينشطون من قطر أيضا".
وتتسع دائرة المقيمين في قطر ممن يعملون بنشاط واضح وملحوظ، تغض السلطات القطرية الطرف عنه، لتشمل ممولي حماس وتنظيم الإخوان وجماعات إرهابية تمتد من آسيا إلى إفريقيا، مرورا بشبه الجزيرة العربية. أما الجزء الثاني من تقرير مؤسسة "دعم الديمقراطية" فيفرد مساحة كبيرة لدعم وتمويل "جبهة النصرة"، بشكل يجعل الجماعة الإرهابية تبدو وكأنها "ذراع قطرية".
وخلاصة القول الفصل في هذا الموضوع، هي أننا إذا أردنا أن نكون جديين في محاربة الإرهاب فعلينا أن نكون جديين في محاربة مموليه، وكذلك في محاربة قنوات البروباجندا التي تفرش السجاد الأحمر تمهيدا لوصوله. وفي الحالين فالأسهم تشير إلى طريق واحد، لأن كل طرق الإرهاب اليوم تؤدي إلى "دوحا".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة