يمكن القول إذن إن تدهور مكانة العملة الأمريكية هو أمر شبه مؤكد مع تدهور القوة الاقتصادية والتجارية.
في خطابة أمام مؤتمر محافظي البنوك المركزية في 23 أغسطس/آب الماضي دعا مارك كارني، محافظ بنك إنجلترا المركزي، إلى التخلص من الاعتماد على الدولار وتوحيد جهود البنوك المركزية لإيجاد عملة احتياطية بديلة. وأشار إلى أنه "مع إعادة تنظيم الاقتصاد العالمي، لا تزال أهمية الدولار الأمريكي مثلما كانت في الفترة حين انهار نظام بريتون وودز" (أي فك الارتباط بين الدولار والذهب في السبعينيات من القرن الماضي). وكان قد سبق كارني الكثيرين إلى التنبيه من خطر هيمنة الدولار. ومن هنا يثور التساؤل لماذا هذه المكانة المهيمنة للدولار من الأساس؟
الواقع أن احتلال الدولار لمكانة مهيمنة يعود إلى تاريخ طويل، فحينما انتهت الحرب العالمية الثانية، كانت معظم بلدان العالم وعلى رأسها بلدان أوروبا المتقدمة صناعيا قد دُمرت تماما، ولم يستثن من هذا المصير سوى بلد واحد هو الولايات المتحدة الأمريكية، ولهذا كان الناتج الأمريكي عند نهاية الحرب يصل إلى ما يقرب من 60% من إجمالي الناتج العالمي، كما أن أمريكا كانت القوة التجارية الرئيسية في العالم، حيث بلغت صادراتها نحو 22% من جملة الصادرات العالمية، وبلغت وارداتها 13% من جملة الواردات العالمية في عام 1948، مع تحقيقها لفائض في ميزانها التجاري يزيد على 4.5 مليار دولار. وقد حدث هذا لأن باقي دول العالم خاصة الأوروبية منها لم يكن لها من سبيل لتعمير اقتصادها سوى عبر ما عرف بمشروع مارشال، وكان هذا المشروع يعتمد على تصدير السلع الأمريكية للخارج، وهو ما أدى لتحقيق فائض تجاري لصالح الولايات المتحدة حتى عام 1968.
يمكن القول إذا إن تدهور مكانة العملة الأمريكية هو أمر شبه مؤكد مع تدهور القوة الاقتصادية والتجارية النسبية لأمريكا عالميا، لكن دون أن ننسى أنها ما زالت أكبر قوة عالمية حتى اللحظة الراهنة
وكما ذكر روبرت ماندل الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لمساهماته في موضوع النقد الدولي "فإن أمريكا خرجت من كلتا الحربين العالميتين باعتبارها القوة المهيمنة عسكرياً وصناعياً ومالياً وأصبح الدولار هو العملة العالمية."
وكان من الطبيعي أن يصبح الدولار الأمريكي وسيلة الدفع المعتمدة في حلبة التجارة الدولية، وعلاوة على دوره كوسيلة دفع، فإن التزام الولايات المتحدة الأمريكية بقابلية تحويل الدولار إلى وزن محدد من الذهب (العملة الوحيدة بعد الحرب العالمية الثانية التي كان لديها هذه القابلية) كانت تدعم باستمرار من الثقة فيه، وجعلته دون منازع عملة الاحتياطي الدولي، فحينما استرجعت الدول الأوروبية جزءا كبيرا من قدراتها الاقتصادية وخرجت اليابان بعد الحرب كقوة اقتصادية جديدة، وبداية تحقيق هذه البلدان لفوائض في موازين مدفوعاتها لم يكن هناك خوف من الاحتفاظ بالاحتياطيات الدولية في صورة دولارات طالما أن كافة الدول التي تحقق فائضا يمكنها بسهولة تحويل هذه الدولارات إلى ذهب. وكما يقول ماندل "أصبح الدولار عملة المدفوعات الأساسية، والموجودات الاحتياطية، ووحدة المحاسبة، ووحدة العطاءات والتعاقدات، ومرجع القيمة، ووحدة المدفوعات المؤجلة، وأداة تسوية المنازعات، ومقياس الأسعار العالمية، ومؤشرا للتعاملات الدولية ليحل محل الجنيه الإسترليني- تدريجياً وليس فوراً- بعد عام 1949."
لكن أمريكا في ظل هذه المكانة العالمية المنفردة للدولار أضحت تطبع المزيد من الدولارات، فالسياسة النقدية والمالية الأمريكية لم تكن تخشى ارتفاع معدل التضخم الناتج عن الإفراط في السيولة النقدية المتاحة في الأسواق، طالما أن دول العالم أجمع تقبل طوعا، بل ترحب باستيعاب أي كمية من الدولارات تقوم بطرحها السلطات النقدية الأمريكية. ولكن بمرور الوقت بدا من الواضح للإدارة الأمريكية أن حجم ما هو متاح في الأسواق من أوراق العملة الخضراء يزيد على المتاح من احتياطيات الذهب، ولذا قرر الرئيس الأمريكي نيكسون فجأة عام 1971 فصم العلاقة بين الدولار والذهب، ليتحول كل ما لدى العالم من دولارات إلى أوراق تتيح لصاحبها حقوقا على الإنتاج الأمريكي (أي يمكن بها شراء السلع الأمريكية) أو أداة للاستثمار في السوق الأمريكي، ولكن ليس أكثر من ذلك، ونتيجة لهذا دخل النظام النقدي الدولي المستند للدولار في أزمة شديدة في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وتحول العالم من نظام أسعار الصرف شبه الثابت الذي تقرر في اتفاقيات بريتون وودز عام 1944 إلى نظام أسعار الصرف المعومة عام 1973. ولكن استمرت دول العالم أجمع في قبول الدولار كعملة عالمية وخاصة كوسيلة دفع وتسعير للعديد من السلع (خاصة السلع الأولية وعلى رأسها النفط)، وبالتالي كان ذلك سببا في استمرار الإقبال على الدولار خاصة بعد ارتفاع أسعار النفط عام 1973 وحدوث تراكم دولاري لدى البلدان المصدرة للنفط من الفوائض التي حققتها في موازين مدفوعاتها. واستمرت دول العالم في مراكمة الاحتياطيات الدولارية، واستمرت الولايات المتحدة لا تعاني من قلق كبير جراء العجز في ميزان تجارتها ومدفوعاتها طالما أنها- على خلاف كافة دول العالم- كان بإمكانها أن تدفع بعملتها الخاصة التي تقبل بها بقية دول العالم كعملة الاحتياطي الأولى. وقد عزز من هذا الوضع بزوغ قوة اقتصادية جديدة جبارة منذ السبعينيات هي اليابان حققت فوائض مستمرة في ميزان مدفوعاتها وقبلت بالدولار كعملة للاحتياطي النقدي لديها، بحيث كانت اليابان هي أكبر بلد حائز للدولارات خارج الولايات المتحدة قبل أن تسبقها الصين. وسلكت بلدان آسيا الناهضة اقتصاديا في بداية الثمانينيات هي الأخرى نفس السلوك، ثم مع منتصف الثمانينيات وبروز الصين كقوة تجارية دولية برزت هي الأخرى كبلد يحقق فوائض هائلة في ميزان مدفوعاته يحتفظ بأغلبها في شكل دولارات.
الدولار بداية اهتزاز المكانة:
مع التدهور النسبي في المكانة الاقتصادية والتجارية الأمريكية، بدأ التشكك في قدرة الدولار على الاستمرار في القيام بالوظائف التي ظل يقوم بها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فالناتج الأمريكي الآن يقل عن 20% من حجم الناتج العالمي (وفقا لما يسمى بنظرية تعادل القوة الشرائية)، مع استمرار تحقق عجز كبير في الميزان التجاري الأمريكي.
ويترتب على ما سبق العديد من النتائج، منها:
انخفاض نسبي في مكانة الولايات المتحدة الأمريكية المهيمنة على حلبة الاقتصاد العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سواء في مجال الإنتاج أو التجارة العالميين، مع أخذ هذه النتيجة بتحفظ، لأن الولايات المتحدة حتى وقتنا الراهن ما زالت أكبر اقتصاد عالمي وأكبر قوة تجارية عالمية.
ثانياً: إن دول العالم المختلفة صاحبة الفوائض في موازين مدفوعاتها هي التي تقوم بتمويل عجز الميزان التجاري الأمريكي، بالاستثمار في السوق الأمريكي وخاصة في أدوات الدين العام، وهي في الحقيقة لا تفعل ذلك خدمة للولايات المتحدة، بل خدمة في الأساس لمصالحها؛ فعدم القيام بذلك يعني انخفاض مستوى الدخول والمعيشة للأمريكيين، بما يترتب عليه انخفاض مستوى الواردات الأمريكية وبالتالي التأثير سلبا على مستوى النشاط الاقتصادي في هذه البلدان، خاصة البلدان الأكثر اعتمادا على السوق الأمريكي لتصريف بضائعها مثل الصين والمكسيك واليابان وكندا.
كما أن الاستثمار في أدوات الدين العام الأمريكي هو استثمار في أدوات مضمونة من قبل حكومة الولايات المتحدة، وبالتالي فإنها تشكل وجهة مناسبة لاستثمار الفوائض التي تتراكم في البلدان صاحبة الفوائض في موازين المدفوعات، لذا ليس غريبا أن اليابان والصين هما أكثر بلدين يحوزان الآن على سندات الخزانة الأمريكية.
يمكن القول إذن إن تدهور مكانة العملة الأمريكية هو أمر شبه مؤكد مع تدهور القوة الاقتصادية والتجارية النسبية لأمريكا عالميا، لكن دون أن ننسى أنها ما زالت أكبر قوة عالمية حتى اللحظة الراهنة، كما أنه كما ذكر ماندل فإن "أنظمة النقد لا تتغير فجأة ودون سابق إنذار، فهناك عادة وقت كبير بين التفكير والتنفيذ، ففي القرن التاسع عشر كان الجنيه الإسترليني عملة التجارة الدولية، وبروز الدولار كعملة التجارة الدولية كان قد تنبأ به جون ستيوارت ميل عام 1869 مع تنبؤه بهيمنة الولايات المتحدة، وذلك قبل طرد الجنيه الإسترليني كعملة العالم الرئيسية بوقت طويل". على الرغم إذا من سهولة التنبؤ بتقلص دور الدولار عالميا، وفقا لحالة الاقتصاد الأمريكي والعالمي، إلا أن الانتهاء الفوري لهذا الدور ليس منتظرا أو مرحبا به حتى من قبل القوى التي لا يمكن تصنيفها صديقة للولايات المتحدة، والأغلب أنه مع التحقق الفعلي لعالم متعدد الأقطاب اقتصاديا وسياسيا أن يعاد النظر تلقائيا في وضع نظام نقدي دولي جديد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة