طلاق الدولار.. سلاح روسيا والصين ضد العقوبات الأمريكية
بدأت روسيا والصين في تنفيذ سياسة التخلي عن الدولار لصالح عملات أخرى، فهل ينجح "الطلاق" في الحد من العقوبات الأمريكية؟.
وكانت موسكو وبكين قد وقعتا في 2014 اتفاقية مقايضة عملات لمدة ثلاث سنوات بقيمة 150 مليار يوان (24.5 مليار دولار).
وفي أغسطس/آب 2020، أظهرت بيانات اقتصادية أن حصة الدولار في الحسابات التجارية بين البلدين في الربع الأولى من العام هبطت إلى دون مستوى 50% إلى 46%، وذلك للمرة الأولى للإطلاق.
فيما بلغت حصة اليوان والروبل خلال الفترة المذكورة 24%، بينما كانت حصة اليورو 30%.
وتجاوز التبادل التجاري بين روسيا والصين العام الماضي مستوى الـ100 مليار دولار، منها 56 مليار دولار هي صادرات روسيا إلى الصين، مقابل واردات بقيمة 52 مليار دولار.
وتربط موسكو وبكين علاقات تجارية واقتصادية وثيقة، ويسعى البلدان للارتقاء بالتجارة بينهما لتصل إلى مستوى 200 مليار دولار سنويا في الأعوام المقبلة.
وكثفت روسيا جهود خفض اعتمادها على العملة الأمريكية بعد تدهور علاقات موسكو مع الغرب عقب ضم موسكو شبه جزيرة القرم في 2014 ودورها في الأزمة الأوكرانية.
وتطور الأمر خلال الفترة الأخيرة، بعدما أعلنت روسيا رسميا على لسان نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك، أن بلاده قد تميل قريباً إلى الابتعاد عن عقود النفط المقومة بالدولار الأمريكي إذا تواصلت العقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد موسكو.
وذكر "نوفاك" في تصريحات لمحطة "سي إن بي سي" خلال منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي: "من الناحية المثالية، نفضل عدم الابتعاد عن الدولار لأنه عملة دولية تستخدم في التسويات".
لكنه أضاف: "لكن إذا تسبب شركاؤنا الأمريكيون في هذا الموقف، فلن يكون لدينا خيار آخر سوى القيام بذلك بشكل تدريجي".
وجاءت تصريحات "نوفاك" بعد ساعات من إعلان روسيا اعتزامها التخلي عن الأصول المقومة بالدولار في صندوق الثروة السيادي الخاص بها.
ومن المقرر أن يعقد الرئيس الروسي "فيلاديمير بوتين" ونظيره الأمريكي "جو بايدن" اجتماعاً في قت لاحق من هذا الشهر، في أول قمة بين الرئيسين منذ تولي الأخير منصبه في يناير الماضي.
هل سيتأثر الدولار؟
يرى الخبراء أن مساعي الصين وروسيا للتخلي عن الدولار من شأنها أن تؤثر على الدولار كعملة تجارة عالمية وربما تحد من العقوبات الأمريكية المستمرة، ولكن على المدى البعيد، حيث إنه في المدى القصير لا يزال الدولار محافظا على مكانته، ويعتبر البعض أن استخدام عملة موحدة في ضبط الأسعار العالمية، يجنب الشركات الخسائر والمفاجآت غير السارة عند حدوث تقلبات في الأسواق.
ويفضل كثيرون التسعير بالدولار في تجارة المعادن الثمينة، كما أن الاعتماد على الدولار في تسعير الصادرات والواردات يحفظ هامش الربح لدى المستثمرين ويحميهم من تكبد الخسائر في حالة انهيار العملة المحلية.
وبحسب رويترز الدولار لا يزال مهيمنا عالميا في وقت لا يشكل اليورو سوى 20% من الاحتياطيات العالمية.
وتشير دراسة نشرتها صحيفة "الإيكونوميست" (The Economist) البريطانية، إلى أن دول الاتحاد الأوروبي عندما أصدرت عملة اليورو، كانت تأمل أن تحل محل الدولار في العالم، ولكن ذلك لم يحدث، إذ إن حجم الدفوعات التجارية التي تتم باليورو لا يزال يعتبر منطقيا مقارنة بحجم التجارة التي تقوم بها دول الاتحاد، وعلى سبيل المثال خلال الفترة من 1999 إلى 2014، كان حجم التجارة باليورو يعادل 1.2 ضعف نصيب فضاء الاتحاد الأوروبي من الواردات العالمية.
المدى البعيد
قال هومي خاراس، نائب مدير برنامج الاقتصاد العالمي والتنمية في معهد بروكينغز، في تصريحات سابقة، إن الصين الآن في طريقها لتجاوز الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في عام 2028، وذلك أسرع بعامين مما كان يتوقعه في السابق.
وقد أظهر تقرير صندوق النقد الدولي السنوي عن آفاق الاقتصاد العالمي للعام 2020، أن اقتصاد الصين بات أكبر من اقتصاد أمريكا بفارق نحو 3 تريليونات ونصف التريليون دولار، في الثلاثة أرباع الأولى من العام. وهذا يعني أن عام 2020 يشكل بداية العقد الأول الذي لن تمتلك فيه الولايات المتحدة الاقتصاد الأكبر عالمياً.
وتقول الكاتبة رنا فوروهار في مقال نشرته صحيفة فايننشال تايمز الأمريكية إن عصر العولمة التي لا تخضع لأي قيود قد ولى، وهذا ليس أمرا مثيرا للجدل في هذه المرحلة لأسباب واضحة تشمل تقلص سلاسل الإمداد الدولية المعقدة في فترة ما بعد كوفيد-19، وفك الارتباط بين الولايات المتحدة والصين.
وترجح فوروهار أن يصبح العالم ثلاثي القطب، أو على الأقل ثنائي القطب، مع توجه الكثير من الدول نحو تبني المزيد من السياسات الإقليمية فيما يتعلق بمجال التجارة والهجرة وحتى تدفقات رأس المال في المستقبل.
وتقف العديد من الأسباب وراء ذلك، منها ما هو مثير للقلق، مثل تصاعد النزاعات القومية، والبعض الآخر حميد، حيث ترغب بعض الدول في إنشاء اقتصادات محلية أكثر مرونة وشمولية، حسب الكاتبة.
هل ندخل إلى عالم ما بعد الدولار؟
وذكرت الكاتبة أن هذا يطرح سؤالا كان ينظر إليه على أنه مثير للجدل: هل ندخل إلى عالم ما بعد الدولار؟ قد يبدو هذا سؤالا مخادعا، نظرا لأن أكثر من 60% من احتياطيات العملات العالمية بالدولار الذي يستخدم في الأغلبية العظمى من المعاملات التجارية العالمية.
كما قدم دعم بنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي لأسواق الدولار خارج الولايات المتحدة استجابة لأزمة فيروس كورونا المستجد زخما إضافيا لسيادة الدولار على الصعيد العالمي، ونتيجة لذلك، يجادل الكثير من الناس بأنه لا يمكن محاربة النظام الاحتياطي الفدرالي.
وفي الواقع -تقول فوروهار- إن هيمنة النظام المصرفي الأمريكي وحجم السيولة المتوفرة من عملة الدولار المدعومين من قبل النظام الاحتياطي الفدرالي سيعطيان الدولار سيادة لا جدال فيها في النظام المالي العالمي وأسواق رأس المال إلى أجل غير مسمى.
وأضافت أنه "لا يمكن الاستعاضة عن شيء بشيء"، ويعني هذا أنه على الرغم من أن الصين وروسيا ودول الأسواق الناشئة الأخرى وكذلك بعض الدول الغنية مثل ألمانيا تود الابتعاد عن هيمنة الدولار، فإنها لا تملك بدائل حقيقية، وتتنامى هذه الرغبة، ولا سيما في عالم يزداد فيه استخدام القطاع المالي كسلاح.
وينبغي الأخذ في الحسبان التحركات الأخيرة التي اتخذتها كل من بكين وواشنطن للحد من مشاركة القطاع الخاص في الأسواق الرأس المالية الخاصة ببعضها البعض، وفق الكاتبة.
ومع ذلك، لا يمكن مقارنة الدولار باليورو الذي يمثل حوالي 20% من الاحتياطيات العالمية من حيث السيولة، كما لا تزال هناك الكثير من الشكوك بشأن مستقبل منطقة اليورو، ناهيك عن أن سوق الذهب يعد ضيقا للغاية.
"الرنمينبي" الرقمي
وأشارت فوروهار إلى أن الصين اشترت كميات كبيرة من الذهب في الآونة الأخيرة كإجراء احتياطي ضد قيمة مخزوناتها من الدولار، كما اختبرت بكين نظام العملة الرقمية الخاص بها "الرنمينبي" الرقمي، لتصبح أول دولة ذات سيادة تطرح عملة مشفرة مدعومة من البنك المركزي، والتي من المتوقع أن تلقبى إقبالا كبيرا في الصين، وخصوصا على منصات مثل "أليباي، وي تشات باي".
ومن شأن اليوان الرقمي تعزيز قدرة الصين التنافسية على الصعيد العالمي ومركزها القوي في المفاوضات العالمية على حد سواء.
الحزام والطريق
وبحسب الكاتبة، فإنه من المحتمل أن يمثل مدار "مبادرة الحزام والطريق" -التي أطلقتها الصين- بديلا جذابا للبلدان والشركات التي ترغب في التجارة مع بعضها البعض دون الحاجة إلى استخدام الدولارات للتحوط من مخاطر أسعار الصرف، وبالتالي الضغط على الولايات المتحدة للحد من العقوبات.
لكنها تقول إن هذا التحرك وحده لا ينبغي أن يشكل تحديا لسيادة الدولار، وذلك على الرغم من أنه كان كافيا لدفع وزير الخزانة الأمريكي السابق هانك بولسون -وهو رجل لا يصدر تعليقات بشأن مواضيع دون أن تكون مهمة- إلى كتابة مقال حديث يدرس مستقبل الدولار.
وأشارت إلى أنه يمكن أن تصبح خطة المفوضية الأوروبية لتعزيز ميزانية التعافي المخصصة لإنقاذ الاتحاد بعد أزمة كوفيد-19 عن طريق إصدار سندات الديون -التي سيقع سدادها من خلال جمع الضرائب من جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي- قوام تأسيس اتحاد مالي حقيقي، وفي نهاية المطاف فإن من المحتمل أن يشهد العالم قيام الولايات المتحدة الأوروبية وتنامي شعبية اليورو.