"الدوبارة" الجزائرية.. وجبة الشتاء والصيف
"في برد قارص مثل هذا لا تنفع إلا الدوبارة"، عبارة يرددها كثير من الجزائريين خلال فصل الشتاء مع انخفاض درجات الحرارة أو تساقط الثلوج.
ومع هذه الأيام التي شهدت تساقطاً كثيفاً للثلوج بعدد من ولايات الجزائر، عاد الجزائريون يقبلون على محلات وجبة "الدوبارة" التقليدية والشعبية، التي يعتبر الحمص والفول والفلفل الحار أهم مكوناتها الأساسية.
ولهذه الأكلة التقليدية ميزة خاصة عن بقية الأطباق الشعبية المعروفة في الجزائر، فأصلها من جنوبي الجزائر المعروف بطقسه الحار خلال فصل الصيف.
والوجبة عبارة عن حساء حار لـ"التدفئة" من البرد القارص، الذي تعرفه مختلف مدن شمالي البلاد وبعض المناطق الجنوبية، وأيضا وجبة لـ"ترطيب" الجسم عند أهل الصحراء الجزائرية خلال فصل الصيف.
ما يميزها أيضا هو طعمها الحار جدا ومذاقها الذي لا يقاوم، ويقال إنها تحمي من العطش والجوع يوماً كاملاً، وتقي الجسم أيضا من انخفاض درجات الحرارة.
قصة "الدوبارة" الجزائرية
تعرف بـ"الدوبارة البسكرية" نسبة إلى ولاية بسكرة التي تقع في الجنوب الشرقي من الجزائر، وأيضا بـ"بوابة الصحراء الجزائرية".
غير أن الأبحاث أكدت بأن أصلها من ولاية مجاورة لها، وهي محافظة "وادي سوف" الحدودية مع دولتي تونس وليبيا، وبأن انتشارها في بقية المدن الجزائرية بدأ من مئات السنين انطلاقاً من صحراء الجزائر، وتباينت معها الروايات حول أصل تسميتها بـ"الدوبارة".
إذ يذكر بعض سكان مدينة "الوادي" بأن تاريخها بدأ من القرن الـ19، عندما قام أحد سكان المدينة يعرف باسم "الشيخ محمد الدبار" بخلط حبات من الحمص والفول مع توابل خاصة، ليقدمها كـ"ضيافة" لزوار محله الواقع في السوق الشعبي بوسط المدينة، مع قطعة من الخبز المحلي التقليدي.
وتحولت تلك الأكلة مع مرور الأعوام إلى "طبق تقليدي" خاص بالمدينة، استمد اسمه من اسم صاحبه "الدبار" لتصبح أكلة "الدوبارة"، وباتت أكلة الفقراء والأغنياء معاً، خصوصاً لما توفره من ميزات غذائية يحتاجها المجتمع المحلي بالمدينة المعروف بامتهانه التجارة منذ القدم.
بينما تذكر روايات محلية أخرى بأن تسمية الأكلة مستمد من جملة "دبِّر رأسك"، وهي كلمة كان يرددها تجار وأهل المدينة المعروفة أيضا بأراضيها الفلاحية الخصبة، عندما كانوا يبحثون عن وجبة الغداء، ولم يكن أمامه متسع من الوقت للذهاب إلى منازلهم وترك تجارتهم.
ويروي بعض قدماء المدينة الذين لا يزالون على قيد الحياة، بأن قصة تسمية الأكلة بـ"الدوبارة" يعود إلى الحرج الذي وقع فيه أحد فلاحي المدينة، عندما زاره أقاربه على حين غرة، خاصة أنها منطقة معروفة منذ القدم بكرم وجود أهلها مع الضيوف.
ولم يجد إلا نصيحة زوجته للإسراع بإكرام ضيوفه، بعدما قالت إنها "سدبر رأسها"، أي أنها ستفكر وتجد حلاً سريعاً، فقامت بخلط حبات من الفول والحمص والطماطم وقليل من الفلفل.
ولم ينتشر هذا الطبق التقليدي في الولايات المجاورة لمحافظة وادي سوف إلا بعد استقلال الجزائر، قبل أن يغزو غالبية محافظات البلاد، وسط انتشار واسع لمحلات صناعتها، نافست بها محلات البيتزا و"الفاست فوود"، وتنتشر بكثرة أيضا في الأسواق الشعبية.
ووصل صدى طبق "الدوبارة" الجزائرية إلى عدد من دول العالم بينها فرنسا وبلجيكا وحتى روسيا ورومانيا، بعد أن فتح جزائريون مغتربون محلات لبيعها لاقت إقبالاً واسعاً من الجالية الجزائرية المقيمة بتلك الدول والمتشوقة لما يسمونه "ريحة لبلاد" (رائحة البلاد) وكذا من سكان تلك الدول.
وبقيت أكلة "الدوبارة" في محافظة وادي سوف، ذلك الطبق "الراقي" الذي يقدمه أثرياء المدينة لضيوفهم الـ"VIP" كما يسمونهم.
ولأكلة "الدوبارة" قيمة غذائية كبيرة لاحتوائها على الزيوت والأحماض التي تساهم في تدفئة الجسم مع انخفاض درجات الحرارة.
الغريب في قصة الأكلة الشعبية "الدوبارة" حول تمكن ولاية بسكرة من التربع على عرش المحافظة على ذلك الطبق، وبات الجزائريون يطلقون عليها "عاصمة الدوبارة"، والسبب يعود في ذلك إلى انتشار محلات الأكل السريع التي همشت "الدوبارة" في "مسقط رأسها" كما يذكر سكان ولاية وادي سوف.
ويرتبط في ذهن الجزائريين من بقية المحافظات أكلة "الدوبارة" بمدينة بسكرة، ويسمونها "الدوبارة البسكرية".
ولا يجد "عاشقو الدوبارة" في الجزائر إلا المذاق الذي لا يقاوم أو التدفئة من الطقس القارص، بل بديكور تقليدياً خاصاً في كل محل لإعداد وبيع هذه الأكلة الشعبية، تتمثل في الكراسي والطاولات والأواني المستمدة من عادات وثقافة أهل الجنوب الجزائري.
طبق صيفي
من غرائب طبق "الدوبارة" أيضا، أن لها ميزة عن جميع الأكلات الشعبية والتقليدية المنتشرة بالجزائر، إذ أن الإقبال عليها لا يقتصر عليها في فصل الشتاء المعروف بدرجاته المتدنية في معظم محافظات الجزائر.
فهي عند سكان مدينة وادي سوف أكلة مهمة في فصل الصيف التي تصل بها درجات الحرارة عادة إلى 50 درجة مئوية أو أكثر.
وتعتبر الطبق الرئيسي في فصل الصيف عند سكان هذه المدينة العريقة، وتقدم باردة عكس فصل الشتاء، حيث لا تؤكل إلا ساخنة.
ويؤكد سكان "وادي سوف" بأن تفضيلهم "الدوبارة" في فصل الصيف يعود إلى ميزاتها الغذائية، حيث تساعدهم في التخفيف من حدة العطش إلى حد القضاء عليه وحتى الجوع طوال ساعات طويلة من اليوم.
ويعود الفضل في ذلك إلى مزج الفول والحمص في طبق واحد، بالإضافة إلى الفلفل الحار والطماطم بنوعيها الطبيعية والمصبرة، وكذا الملح والثوم و"الهريسة الحارة" المصنوعة من الفلفل الحار الأحمر، وزيت الزيتون، وبعض التوابل.
كما أن عائلات وادي سوف تستقبل فصل الصيف بنفس عادات استقبال شهر رمضان، إذ تحرص على إعدادها في المنازل بشكل شبه يومي، بعد اقتنائها مكونات "الدوبارة" من الأسواق، ووضعها في أكياس لتفادي تلفها.