كثير من العلاقات المرضِية التي تسوقها لنا الأيام وتتواجد في حياتنا بسبب عدم وعينا أو لأسباب اجتماعية أخرى تقودنا إلى نكسات صحية.
في دراسة مطولة قامت بها جامعة هارفارد سنة 1938، تتبعت خلالها وعلى مدار ما يقارب ثمانين سنة، حياة عينة من الشباب من طلاب السنة الأولى في الجامعة، رغبة منها في رصد أسباب الحياة الصحية السعيدة.
بلغت العينة ما يقارب 268 شابًا ليس بينهم نساء لأنه في تلك المرحلة لم يكن يُسمح للفتيات بدخول الجامعة. في خلال هذه السنوات تم جمع معلومات صحية واجتماعية وتفاصيل حياتية عن حياة كل أفراد العينة، وكل ما يعترض حياتهم من إشكاليات صحية واجتماعية، أسبابها وما يترتب عليها من نتائج على حياتهم.
من مجموع العينة الأصلية التي تمت دراستها لم يتبقَ منهم على قيد الحياة غير تسعة عشر شخصا، وهم الآن في منتصف التسعين من أعمارهم على حسب منشور هارفارد جازيت.
مرت الدراسة منذ بدئها بقيادة أربعة باحثين آخرهم الطبيب النفسي المعاصر روبرت والدينجر.
في استبيان تم في إحدى المؤسسات البحثية في الولايات المتحدة الأمريكية يعمد إلى سبر أهداف وتطلعات الشباب، وكان يتمحور حول سؤال "ما هي أهدافك المستقبلية"؟ كانت النتائج في الحقيقة صادمة: فثمانون بالمائة من العينة كانت أهدافهم أن يصبحوا أغنياء، وخمسون بالمائة أن يكونوا من المشاهير.
في المراحل المتوسطة من الدراسة قام الباحثون بتطوير نطاق البحث وتوسيع العينة لتتبع التطور الصحي لأفراد أسر العينة الأصلية وذلك من خلال إدخال أبنائهم وأحفادهم في عينة الدراسة، والذين هم اليوم في الستينيات والخمسينيات من العمر، وبذلك زاد عدد أفراد العينة حيث بلغ ألفاً وثلاثمائة شخص.
من أهم النتائج التي توصلت إليها هذه الدراسة القيمة أن العلاقات الإنسانية ونوعيتها ودرجة الإشباع العاطفي والاجتماعي والروحي في حياة أفراد العينة لعب دورا كبيرا في التأثير الإيجابي على صحتهم الجسدية، وعلى التقليل من إصابتهم بالأمراض المختلفة.
فضلا عن ذلك وُجد أن العلاقات الإنسانية النوعية لا تحمي أجسادنا فقط، ولكنها أيضا تحمي أدمغتنا وقدراتنا العقلية. فذاكرة أفراد العينة المحاطين بنظام أسري واجتماعي محب وداعم أكثر حضورا وقوة من أولئك الذين لم يحظوا بهذه المحبة.
بتأمّل الدراسة ونتائجها نصل إلى أن ليس العلاقات الاجتماعية بحد ذاتها السبب في عيش الإنسان بسعادة وصحة، ولكنه من وجهة نظري هي درجة المحبة والحميمية والعطاء والصدق في هذه العلاقات، فضلا عن ذلك، كثير من العلاقات المرضِية التي تسوقها لنا الأيام وتتواجد في حياتنا بسبب عدم وعينا أو لأسباب اجتماعية أخرى تقودنا إلى نكسات صحية وتدهور على المستوى النفسي والروحي، إذن هي النوعية وليست العلاقة ما يمكن أن يقودنا لحياة صحية مثمرة.
المحبة طاقة إيجابية عابرة في داخل كل منا، وهي من "أرخص" أنواع الطاقة تكلفة، لأنها لا تتطلب الكثير من رؤوس الأموال لاستخراجها، ولكنها من أهم وأقوى الطاقات العلاجية في الكون، والتي لا تعالج فقط من تسكن روحه، ولكنها تعالج كل ما يحيط به من عوالم.
ولكننا، للأسف أصبحنا نعيش اليوم في عالم يجعل تدفق هذه الطاقة صعبا، عالم يتفنن في خلق الحواجز لمنع تدفقها، في الوقت الذي يسمح ويشجع بتدفق طاقة الحب الحسي والنفعي بكل أشكاله من ناحية، وطاقة الخوف والكراهية من ناحية أخرى، وهما للأسف النقيض لطاقة المحبة.
في استبيان تم في إحدى المؤسسات البحثية في الولايات المتحدة الأمريكية يعمد إلى سبر أهداف وتطلعات الشباب، وكان يتمحور حول سؤال "ما هي أهدافك المستقبلية"؟ كانت النتائج في الحقيقة صادمة: فثمانون بالمائة من العينة كانت أهدافهم أن يصبحوا أغنياء، وخمسون بالمائة أن يكونوا من المشاهير، وهذا مؤشر على أن نظام الحياة الذي نعيشه على مسرح العولمة المتعالية يعطي مقاعد الدرجة الأولى للشهرة والمال والسلطة، بينما يقبع الحب في المقاعد الخلفية في هذا المسرح، وهذا الحال ليس مقصورا على الشباب الأمريكي ولكنه يبدو أنه عام، حيث إنني أتلقى أسئلة من كثير من الصغار في الأسرة عن الطريقة التي ممكن أن يصلوا بها إلى الشهرة.
جدير بالذكر هنا أنني عند الحديث عن الحب لا أعني العاطفة الحسية الباحثة عن الإشباع، ولكنني أقصد تلك الطاقة العامة والشاملة، التى تتجاوز حدود الحسي لتصل إلى درجة الحضور الخلاّق الذي تنعكس إيجابياته على العالم المحيط كما يصفه الفيلسوف الألماني ماكس شيلر، إنه الحب الرحب المتمدد، الذي يمر متجاوزا القيم الدنيا حتى يصل إلى أعلى مستوى من الرقي القيمي، والذي لا يمكن إلا أن يتجلى نوره منعكسا على الجميع.
إنه الحب الذي يشكّل، كما يقول شيلر، قوة خلاقة مبدعة تدفع كل من تسكن فيه إلى الترفع والرقي في مشاعره وسلوكياته، وإلى إضفاء هذا الترقي، بدون وعي، على ما حوله.
تقول ميا هانسون في مداخلة لها على منصة تيدكس العالمية إنها بعد رحلة روحية اكتشفت وتوصلت إلى أن المحبة هي رحلة من خلال القلب لا تنبع منا كبشر، ولكنها تأتي وتمر من خلالنا، وهي موجودة في النبات والطبيعة وفي كل الأشياء وليس فقط في الناس وفي العلاقات الرومانسية.
فالحب هو حجر الأساس لتواجدنا الإنساني والكوني، والله جل جلاله خلق الكون بدافع هذه المحبة، أحب الله أن يعرف فخلق الكون بدافع المحبة ومنه سرت في كل خلقه، ففي الحديث القدسي يقول الله عزا وجل : "يا ابن ادم أنا لك محبا، فبحقي عليك كن لي محبا". وهذا هو عقد العلاقة التي تربط الخالق بالمخلوق. فبالمحبة وحدها سيتبع المخلوق حكمة وطريق الخالق التي ستقوده للنعيم المقيم وليس بشيء آخر.
في تفسير القرآن للتستري روي أن علي بن الحسين رضي الله عنهما، سأل امرأة: ما الحب؟ قالت: أخفى من أن يُرى، وأبيَن من أن يُخفى، كُمونه في الحشا كُمون النار في الحجر. إن قدحته أوري وإن تركته توارى، وثم أنشأت تقول:
إن المحبين في شغل لسيدهم
كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
أما في كتاب الحب والمحبة الإلهية عند الشيخ ابن عربي للكاتب محمود الغراب، وصف الحب أنه معقول المعنى ولكنه لا يُحد، لأنه يدرك بالذوق. وكما يقال:
الحب ذوق ولا تدري حقيقته
أليس ذا عجب والله والله
وقال من حدّ الحب ما عرفه، ومن لم يذقه شربا ما عرفه، ومن قال رويت منه ما عرفه؛ فالحب شرب بلا ريّ.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة