لم يكن الزلزال الذي ضرب مناطق بتركيا وسوريا، والذي بلغت قوته 7.8 درجة على مقياس ريختر، وأسقط آلاف الضحايا والجرحى، مدمرا للبنية التحتية وحسب، بل أزال الحواجز السياسية التي هيمنت على المنطقة لسنوات.
حدث هذا إنما لترتقي المفاهيم الإنسانية في أوقات الشدة، لذا فقد أظهرت الكارثة النموذج الإماراتي المشرف، الذي يضع الإنسان في المقام الأول دون تمييز.
لقد تحركت دولة الإمارات بكل فاعلية على أكثر من مسار، في تجسيد مثالي لمعاني الأخوة الإنسانية، وبتوجيه من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات، انطلقت عملية إغاثية شاملة تحت اسم "الفارس الشهم-2"، عبر تسيير العشرات من طائرات الشحن، والمساعدات الإنسانية المالية، التي تجاوزت 200 مليون دولار، لا سيما على الصعيد الحكومي الرسمي، وعبر حملة "جسور الخير"، التي أطلقها الهلال الأحمر الإماراتي، بالإضافة إلى فرق البحث والإنقاذ الإماراتية.
وبرز مُناخ إيجابي من الدول المختلفة سياسيا مع تركيا وسوريا، حين وضعت الخلافات جانبا لتتجلى المواقف الإنسانية، في وضعية تشابه ما يعرف بدبلوماسية الكوارث، وهي تحركات دبلوماسية إنسانية التوجُّه، تتيح للدول الفاعلة على المستوى الدولي التضامن مع الدول التي تمر بأزمات وكوارث، ولو كانت على حساب المعادلات السياسية.
ولعل أبرز المواقف كان موقف الولايات المتحدة، التي علقت بعض العقوبات المفروضة على سوريا لمدة 180 يوما، بهدف السماح لإدخال المساعدات الإغاثية، وهو اختراق استثنائي لقانون قيصر الأمريكي، كما ظهرت مرونة واضحة لدى الاتحاد الأوروبي، تعكس تغيرا في الموقف الغربي الباحث عن التوازن بين العقوبات، التي فُرضت على دمشق، وردّة الفعل الدولية والإقليمية لمساعدة المتضررين في سوريا جراء الزلزال.
وبادرت اليونان بإرسال مساعدات إغاثية إلى تركيا، برغم الخلافات بين البلدين، واتصل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي هاتفيا بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس السوري بشار الأسد، للعزاء في ضحايا الزلزال وتقديم كل دعم ممكن، وهي جميعا مؤشرات تعكس تحول مواقف الدول بدافع الإنسانية، ولعل هذه النيّات الحسنة تُبقي الأبواب مواربة، لحل الملفات السياسية العالقة في المنطقة.
وكانت زيارة سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي، للمناطق المتضررة شمال غرب سوريا، هي الأولى لمسؤول عربي ودولي رفيع المستوى إلى سوريا منذ الزلزال المدمر، ما يعكس توجه دولة الإمارات الإنساني الداعم للشعب السوري والمُبادر بالدعم لكل شقيق وصديق في أزمة، لا سيما في أصعب الملفات السياسية تعقيدا، حينها لم تُترك سوريا وحيدة، وصولا إلى هذه الظروف الاستثنائية، التي سطر بها الموقف الإماراتي الفاعل تاريخا مشرفا في الإغاثة الإنسانية.
لقد غيّر واقع الزلزال معطيات التقارب السوري-التركي، فالظروف والأولويات تغيّرت، ما قد يدفع البلدين للنظر إلى مفاوضات المصالحة من زاوية "الإقليم الواحد"، وتقديم الرابط الجغرافي والبشري على المعادلات السياسية المعقدة، التي لم تجلب سوى الاستنزاف للطاقات والإمكانيات.
وكان الحراك الإغاثي العربي على قدر المسؤولية، ما يعكس انفتاحا أعاد التواصل الدبلوماسي مع سوريا من بوابة الإنسانية، وفي الإطار نفسه رفعت تونس مستوى تمثيلها الدبلوماسي في دمشق، وهي فاتحة خير لاختراق عُقدة الملف السوري، والانضمام إلى التوجه الذي تقوده عدة دول عربية، على رأسها دولة الإمارات، الهادف لتحسين ظروف الشعب السوري وعودة سوريا إلى محيطها العربي.
ولعل الاستجابة العربية تضع حدا للصراع الجيوسياسي الدولي في المشهد السوري، والذي لا يضع أمن المنطقة العربية في عين الاعتبار، فلقد وضعت كارثة الزلزال واقعا جديدا للأزمة السورية، ومقاربات إنسانية يمكن استغلالها لطي صفحة الماضي.
لا بد أن يتحول التفاعل العربي الإنساني مع كارثة الزلزال في سوريا إلى تحركات عربية ملموسة باتجاه ترميم العلاقات مع دمشق بعيدا عن المعادلات السياسية الدولية، وهي فرصة عربية لتناول الملف السوري بواقعية تضع مصلحة الشعب السوري كأولوية، وهي فرصة كذلك لدمشق للبناء على واقع الأحداث الراهنة، وتحويلها إلى مسارات صادقة تعزز إعادة التموضع السوري مع العرب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة