تكشف ردود الفعل الروسية على استمرار الدعم الأوروبي لأوكرانيا وجولة الرئيس زيلينسكي الأوروبية مؤخرا، حرص موسكو على توجيه رسائل ضد استمرار الدعم العسكري لكييف والاستجابة الحذرة لمطالب أوكرانيا.
وتتعلق المطالب الأوكرانية بإدخال دبابات من نوعية "ليوبارد 1 إيه" الألمانية في الفترة المقبلة، ورغم أن روسيا تراهن على عنصر الوقت في عدم وصول الأسلحة المطلوبة، على الأقل في موعد ملائم، بما في ذلك الأنظمة الدفاعية الغربية متعددة الأغراض، فإن الأمور قد تمضي في سياقات عدة.
ورغم مراوغات بعض الدول الأوروبية لدعم أوكرانيا، فإن الأمر ليس سهلا ولن يتم بين يوم وليلة، وسيحتاج إلى عدة أشهر سيحقق الجانب الروسي فيها نجاحات في تأمين وجوده بإقليم دونباس ومناطق التماس المجاورة، ما يعني أن الأمر قد يُحسم لصالح روسيا قبل وصول الأسلحة الأوروبية الداعمة لكييف في مسرح العمليات، وهذا بدوره قد يدفع روسيا للاستمرار في العملية العسكرية، وعدم تحويلها إلى حرب كاملة تتطلب استدعاء الاحتياطي لإتمام التفاف استراتيجي كامل، والانتقال بالمواجهة الراهنة إلى تأمين الفضاء الروسي الراهن وفقا لأهداف العملية.
قد يقدم الجانب الروسي، بعد مرور عام تقريبا على بدء العملية العسكرية، على تطوير خياره العسكري، والانفتاح التدريجي على مهام أخرى، ومن ثم فإن روسيا قد تصعّد ضغوطاتها على أوكرانيا، في رهان روسي حقيقي على أن دول الناتو ستماطل في تنفيذ ما يتم الإعلان عنه من دعم عسكري لكييف، خاصة أن هناك تباينات حقيقية في الموقف الأوروبي، وأنه ليس موقفا واحدا، بل عدة مواقف.. ومن ثم فإن إطالة أمد المواجهة ستحتاج بالفعل إلى مقاربة مختلفة، بما في ذلك استمرار التعامل مع النطاقات الأوروبية الداعمة للجانب الأوكراني، والتي تعمل في إطار دعم رمزي ليس أكثر، وفي إطار خيارات محدودة وهامشية، خاصة أن دول الناتو تدرك أبعاد المخطط الروسي، وتعمل على تحاشي الدخول في مواجهة مباشرة مع موسكو، إذ تتفهم جيدا التحذير الروسي من أن أي دعم غربي من الناتو يهدد العمق الروسي معناه أن أراضي الناتو باتت مستهدفة بالفعل، وأن توسيع نطاق مسارح العمليات وارد، ليس لدول الجوار الأوكراني، بل أراضي الناتو بأكملها، وهنا نتذكر التحذيرات المتتالية والمباشرة من قادة المؤسسة العسكرية الروسية بضرورة نقل رسالة لدول الناتو بأن تغيير قواعد اللعبة سيتطلب تحركا مقابلا بالفعل، بل والعمل على مسارات مختلفة، بما في ذلك الدخول في مساحة من الاشتباك الرئيسي، وعدم قصره على أوكرانيا.
وفي ظل التحالف الغربي الأمريكي، فإن الناتو لن يستدعي دورا أمريكيا غائبا حتى الآن، مكتفيا بعد مرور عام على العملية العسكرية الروسية بإجراءات في نطاقه، وتدابير تمثلت في إعادة تموضع بعض القوات، ونشر الصواريخ الدفاعية ونصب بطاريات أنظمة إلكترونية متقدمة، لكن الجانب الأمريكي اكتفى بالعمل من الخارج الاستراتيجي عبر إجراءات لنقل رسالة لدول الناتو بأن أي "تهديد روسي" سيُقابَل برد أمريكي، لكن المؤكد أن الولايات المتحدة "عاجزة" عن الدخول في المواجهة، وتجنبت الصدام مع روسيا، وهو ما برز بوضوح طوال الأشهر الأخيرة، إذ اكتفت واشنطن بحزمة عقوبات على روسيا، في إشارة للعمل على الخيار الممتد، ما قد يفسر بالضغط على روسيا وإنهاكها واستنزاف مواردها وقدراتها العسكرية، وهو هدف أصيل للسياسة الأمريكية، التي حددت الصين "عدوا وخصما"، وتجنبت الإشارة إلى روسيا، في رسالة مهمة بأن الولايات المتحدة قد لا تريد الدخول في مسار تهدئة المواجهة الراهنة، وأنها لا تريد أن تتفاوض باسم أوكرانيا.
تعمل المتطلبات الأوكرانية في مساحات عسكرية في المقام الأول، وليس سياسية، أو دبلوماسية، وهو ما يتسق والهدف الأمريكي الراهن، ويدفع في الوقت نفسه روسيا للتصعيد، بل ومحاولة الدخول في خيارات أوروبية صعبة، خاصة أن دول الناتو تتشكك من احتمال تخلي الإدارة الأمريكية وانشغالها في الفترة المقبلة بالانتخابات الاستهلالية للرئاسة، وصراعات الكونغرس، التي لن تنتهي، والتي يتخوف الناتو من ارتداداتها على ما يجري في نطاق العمليات العسكرية، حال تمدد المواجهة وضمت مسارح عمليات جديدة في بولندا -بكل رمزيتها المعروفة- ومناطق التماس التي قد تستهدفها روسيا إذا هُدّد العمق الروسي، أو أعيد التركيز على الأقاليم الأربعة، التي تم ضمها وباتت ضمن الفضاء الروسي الكبير، شأنها شأن جزيرة القرم، ومن ثم فإن كل الرهانات الحالية تعمل في اتجاه بقاء الخيار العسكري بالفعل وعدم وجود أفق لخيار آخر.
وفي ظل غياب الوساطات الدولية، وانحسار الوساطات الإقليمية في مهام محدودة، فإنه بعد مرور عام على الحرب، لا تزال الصين هي المرشحة بقوة للعمل في هذا الإطار، لكنها تتمهّل، نظرا لحاجتها إلى مقاربات نفعية ووضع اشتراطات كبرى، خاصة أن الصين لديها هواجسها من التردد الأمريكي في بحر الصين الجنوبي من جانب، والتداعيات التي يمكن أن تُطرح في سياق سياسي، أو استراتيجي، وقد تؤدي إلى مقاربات مختلفة ومتنوعة، ومن ثم فإن ما قد يجري من مقايضات عدة سيطول مسألة تايوان مثلا كمقدمة لما هو آتٍ من تطورات قد يعمل عليها الجانب الصيني جيدا بما سيملكه من إمكانيات متعددة.
سترتبط أي تطورات في هذا السياق بحالة عدم الاستقرار في مسارات العلاقات الصينية-الأمريكية، والتي قد تدخل في مساحات تجاذب لا عَلاقة لها بموضوع "التجسس"، كما تسميه أمريكا وتنفيه الصين، بل ستمتد إلى مساحات تتعلق بالملف الاقتصادي والاستثمارات والتعاملات التجارية الكبرى، والتي قد تؤجل أي وساطة للصين في الأزمة الروسية-الأوكرانية، فروسيا تريد من الصين شراكة استراتيجية كبيرة كمقدمة لأداء هذا الدور الجديد، وهو ما قد يزعج الجانب الأمريكي ولا يملك تجاهه أي تصور أو أدوات تعامل، ما سيدفعه نحو مزيد من بناء تحالفات متعددة مع أستراليا وبريطانيا والهند واليابان وكوريا الجنوبية، والاستطالة الممتدة في دول جنوب شرق آسيا لتأمين حضوره الاستراتيجي في كل السيناريوهات المحتملة.
ستبقى المواجهة الروسية-الأوكرانية قائمة، وقد تتسع مسارح العمليات بالفعل، وتستهدف أراضي الناتو، وقد تستمر مجالات الدعم العسكري الأوروبي لأوكرانيا، دون تهديد حقيقي للفضاء الروسي الكبير في بيئته الجديدة، ومن ثم فإن أي تصور مفصلي مطروح من قبل كل الأطراف سيكون مرتبطا في المقام الأول بالعمل العسكري وبهدف تحسين شروط التفاوض عندما تحين ساعة الخيار الدبلوماسي المؤجل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة