هل يكون 2020 عام اشتعال حروب الطاقة في شرق المتوسط؟
توقعات بأن يتجه الرئيس التركي إلى المغامرة والتصعيد المستمر في شرق المتوسط من أجل رفع شعبيته المتدهورة في الداخل قبل الانتخابات المقبلة
لن تكون منطقة شرق البحر المتوسط في عام 2020 وما بعده كما كانت عليه في عام 2019، حيث إنها تموج بتطورات متسارعة تشير إلى أنها سوف تشهد مرحلة جديدة من المواجهات بشأن الغاز والنفوذ خلال العام الجديد.
فهذه المنطقة التي يمكن تعريفها بأنها تتكون من تسع دول، وهي: مصر وقبرص واليونان ولبنان وفلسطين وسوريا وتركيا وليبيا وإسرائيل.
- مصر واليونان تؤكدان اتساق مصالح البلدين في شرق المتوسط
- مصر واليونان: مذكرة التفاهم الموقعة بين السراج وأنقرة غير شرعية
أهم ما يلاحظه المراقبون في عام 2019 أن المنطقة أصبحت على وشك الاشتعال بسبب التنافس الشديد على موارد الغاز الهائلة المكتشفة (في مصر وقبرص وإسرائيل)، أو التي لم يتم اكتشافها بعد (في لبنان وسوريا وفلسطين وليبيا واليونان) والتي تختلف التقديرات بشأن إجمالي قيمتها المالية بين 700 مليار دولار و3 تريليونات دولار، حسب التقديرات المتاحة.
ولذلك تعد موارد الغاز الطبيعي في شرق المتوسط بدون شك "فرصة ذهبية" لجميع دول هذه المنطقة، من أجل التغلب على مصاعبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، إذا ما تم الاستغلال الأمثل لهذه الثروات وتم التعاون من أجل تطويرها وإنتاجها وتصديرها.
ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن في شرق المتوسط، حيث يبدو أن التنافس، وليس التعاون، في هذه المنطقة خلال عام 2019 قد وصل إلى منعطف حاسم، ما قد يدفع إلى سلسلة من التوترات في المرحلة المقبلة، خاصة أن الحوار السياسي ومائدة التفاوض غائبان عن التفاعلات القائمة بين معظم دول المنطقة من جهة وبين تركيا من جهة أخرى، وهو أمر لا يدفع إلى التفاؤل بشأن إمكانية تجنب الصدام والحروب في المنطقة خلال عام 2020 وما بعده.
خطورة الأمر تتمثل في أن أنقرة تبدو مصرة ليس فقط على مواصلة أنشطتها المخالفة للقانون الدولي في مجال التنقيب عن الغاز الطبيعي في المياه الإقليمية لقبرص، والتي كان آخرها إرسال سفينة التنقيب الرابعة إلى المياه الإقليمية لقبرص في النصف الثاني من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
بل إنها أيضا أصبحت عازمة على توسيع نطاق هذه الأنشطة البحثية عن الغاز والنفط إلى المياه الليبية، بعد مذكرتي التفاهم، بشأن التعاون البحري والعسكري التي توصلت إليهما في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 مع حكومة فايز السراج في طرابلس، الأمر الذي يمثل تهديدا خطيرا لأمن المنطقة.
فهذا التعنت التركي لن تقبل به معظم القوى المؤثرة في المنطقة، وسوف يضع أنقرة خلال عام 2020 في مواجهة اليونان وفرنسا والاتحاد الأوروبي وقبرص وإسرائيل ومصر.
ومن جهة أخرى، وصلت الخلافات التركية الأمريكية إلى ذروتها، حيث اتخذت أنقرة خطوة تاريخية بشراء منظومة إس 400 الدفاعية الروسية، وبدأت بتسلمها رسميا وتركيبها، ومن المتوقع أن تدخل الخدمة في الربع الأول من عام 2020، وهو ما اعتبر بمثابة تحول استراتيجي في التقارب التركي مع روسيا على حساب الناتو التي تمتلك تركيا ثاني أكبر جيش فيه.
وفي ظل خلافات كبرى بسبب عمليتها العسكرية في منطقة شرق الفرات السورية وغيرها، بدأت واشنطن بفرض عقوبات مختلفة على تركيا، وجرى طردها من برنامج صناعة وشراء طائرات إف 35، واعترف الكونجرس بما يعرف بـ"الإبادة الأرمنية" وسط تلويح بعقوبات أكبر هددت تركيا بالرد عليها بالمثل، ولوح أردوغان بإغلاق القواعد العسكرية التي يستخدمها الجيش الأمريكي في تركيا.
احتمالات وقوع حروب الطاقة
في هذا السياق، ترجع زيادة فرص وقوع حروب الطاقة في منطقة شرق المتوسط في 2020 إلى عدد من العوامل المهمة، لعل من أبرزها ما يلي:
أولا، تميزت هذه المنطقة، تاريخيا، بحالة من السيولة والتعقيد والغموض من الناحية الأمنية والاستراتيجية نتيجة التفاعلات بين القوى المؤثرة فيها من جهة وتفاقم التحديات والتهديدات الشائعة المتعلقة بالأمن وانتشار الجماعات الإرهابية المتطرفة وتدفق اللاجئين من جهة أخرى.
كما أن هذه المنطقة لم تشهد، سواء خلال الحرب الباردة أو بعدها، أي ترتيبات جماعية أمنية مؤثرة أو فاعلة بين دولها من أجل تحقيق الأمن رغم تشابك وتداخل المصالح والاهتمامات الأمنية لكثير من دول المنطقة، أو من خارجها.
كما تشير الخبرة التاريخية أيضا إلى فشل الأطر الأمنية التي تشكلت عن استحياء بين دول المنطقة، مثل الشراكة الأوروبية - المتوسطية (عملية برشلونة)، ومبادرة الناتو للبحر المتوسط مع سبع دول من جنوب البحر المتوسط.
كما فشلت أيضا الجهود السابقة لإنشاء نظام لضبط التسلح بين الدول العربية وإسرائيل (محادثات ACRS) في إطار عملية أوسلو للسلام.
ولا يوجد أيضا حاليا أي مبادرات إقليمية متعلقة بالأمن رغم تنامي التحديات والتهديدات الأمنية في المنطقة التي من أبرزها ما يلي: تعثر عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، وعدم حل الأزمة القبرصية، واستمرار الحرب الأهلية في ليبيا، وعدم استقرار الوضع الداخلي في لبنان.
وكذلك بروز الدول غير المستقرة (في سوريا وليبيا والعراق واليمن) وانتشار الجماعات الإرهابية المتطرفة (مثل القاعدة وداعش وغيرهما)، وتدفق اللاجئين، والتراجع النسبي في تواجد الولايات المتحدة في المنطقة، وتراجع التأثير العالمي والإقليمي للاتحاد الأوروبي نتيجة أزماته الداخلية.
ثانيا: اتسمت منطقة شرق المتوسط بأن الصراع على موارد الطاقة فيها، خاصة الغاز، يساهم بشكل ملموس في تشكيل أحداثها وتوازنات القوى بها وتفاعلات القوى المؤثرة فيها.
وبوجود الغاز تحت مياه المتوسط في مصر وإسرائيل واليونان وقبرص دون مؤشرات عن وجوده في تركيا، جن جنون أردوغان، وحاول التنقيب عنه بالقوة في المنطقة الاقتصادية لقبرص، بدعوى أن الجزيرة بها قسم تركي، متناسيا أنه لا أحد يعترف بذلك الجزء سوى أنقرة.
ولم يكن أمامه سوى استغلال الفوضى في ليبيا والتسلل إليها وتوقيع مذكرتي تفاهم بينه وبين السراج يضم بمقتضاها المياه الإقليمية للبلدين، ما يتيح له التنقيب عن الغاز فيها.
ثالثا: رغم زيادة المؤشرات الدالة على تنامي التعاون السياسي والاستراتيجي بين عدد من دول منطقة شرق المتوسط من أجل الاستفادة المثلى من الاكتشافات الهائلة من الغاز الطبيعي (مثل إنشاء "منتدى غاز شرق المتوسط" في يناير/كانون الأول 2019 واتفاقات تصدير الغاز من إسرائيل إلى مصر من أجل تسييله في المحطات المصرية قبل تصديره إلى الأسواق الأوروبية، واتفاق مماثل بين مصر وقبرص، ومشروع إنشاء خط أنابيب بحري من إسرائيل إلى إيطاليا عبورا باليونان لتصدير الغاز إلى الأسواق الأوروبية)، إلا أن عام 2020 سوف يشهد على الأرجح استمرار المساعي التركية لتخريب جهود التعاون في مجال الغاز.
إذ إنه لا يزال الرئيس التركي يمني نفسه بالحصول على موارد مالية كبيرة ونفوذ سياسي ملموس على الساحتين الإقليمية والعالمية، عبر لعب دور "المشاكس وصانع المشاكل " في المنطقة، حيث يرى أردوغان أن نجاح هذا الدور قد يؤدي إلى حل كثير من المشاكل الاقتصادية والسياسية التي تواجهها تركيا في الوقت الراهن.
ورغم أن الرئيس التركي يدرك جيدا أن المراهنة على هذا الدور قد تقود إلى نشوب صراع عسكري أوسع مع اليونان وداخل الناتو، فإنه يبدو مصرا على الاستمرار فيه.
وفي هذا الإطار، يتوقع مراقبون أن تتجه أنقرة في العام الجديد إلى التصعيد على خمسة مستويات على الأقل. أولها: الاستمرار في وضع فكرة "الوطن الأزرق" على قمة أجندة السياسة الخارجية التركية، سعيا لفرض سيطرتها على مساحة تبلغ 462 ألف كيلومتر من الأراضي البحرية في منطقة شرق المتوسط وبحر إيجة.
وقد جاءت هذه الفكرة في مذكرة قدمتها أنقرة إلى منظمة الأمم المتحدة في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 لتحديد الإحداثيات التي تعتبرها المنطقة الاقتصادية الخالصة التركية.
وفي هذا الإطار، ليس من المستبعد أن ترسل أنقرة سفنا أخرى للتنقيب عن الغاز في المياه القريبة من جزيرة كريت اليونانية.
والمستوى الثاني: التحرش العسكري بسفن شركات الطاقة العاملة في المنطقة المحيطة بقبرص، والتي كان آخرها في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2019، عندما أرغمت البحرية التركية سفينة أبحاث إسرائيلية تستكشف النفط والغاز البحريّين بترخيص من السلطات القبرصية على العودة والابتعاد عن الجزيرة.
أما المستوى الثالث فهو نشر قواتها العسكرية في قبرص وليبيا، وهو ما ظهرت بوادره في منتصف ديسمبر/كانون الأول الجاري، عندما أرسلت تركيا أول طائرة مسيرة مسلحة إلى شمال قبرص.
وعندما أكد الرئيس التركي استعداد أنقرة للتدخل العسكري وإرسال قوة رد سريع لطرابلس حال طلب منها الجانب الليبي ذلك رسميا، كما ظهرت عدة تقارير حول إمكانية إنشاء قاعدة عسكرية تركية في ليبيا.
أما المستوى الرابع فهو الاستمرار في انتهاك مقاتلات أنقرة وسفنها الحربية المجالات الجوية والبحرية لدول مثل اليونان وقبرص.
أما المستوى الخامس فهو تهديد واشنطن بغلق قاعدتي "إنجرليك" الجوية (في ولاية أضنة) و"كورجيك" للرادارات (في ولاية مالطيا).
تحالفات أمنية جديدة
في ظل التصعيد التركي المحتمل في العام الجديد، فإنه من المتوقع بروز تحالفات أمنية واستراتيجية جديدة أو تعزيز القائم منها في المنطقة.
فعلى سبيل المثال، سوف يتنامى التعاون التركي القطري، وبالتحديد في ليبيا وسوريا لدعم الجماعات الإرهابية، وفي المقابل سوف يزداد التنسيق بين دول مثل مصر واليونان وقبرص وإسرائيل مع الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي.
ومن جهة أخرى، من المرجح أن تعود الولايات المتحدة بقوة إلى المنطقة في العام الجديد لتحقيق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، خاصة مع اهتمام شركات الطاقة الأمريكية بالعمل في المنطقة (خاصة في مصر وقبرص وإسرائيل واليونان) ورغبة واشنطن في مساعدة الأوروبيين على تخفيف اعتمادهم على الغاز الروسي من خلال الحصول على غاز شرق المتوسط.
كما أن واشنطن تبدو راغبة، أكثر من أي وقت مضى، في إحداث "هندسة جديدة" لتوازنات القوى في منطقة شرق المتوسط، من أجل مواجهة الوجود العسكري الروسي في قاعدتي (طرطوس وحميميم) السوريتين لفترة طويلة قادمة.
على أي حال، سيشهد عام 2020 تصعيدا مستمرا في منطقة شرق المتوسط في ضوء ما تتسم به المنطقة من غياب لأي هياكل أمنية إقليمية، ومع توجه معظم القوى الإقليمية والدولية إلى اتخاذ مواقف أكثر حسما في مواجهة أنقرة.
حيث بات العديد من المراقبين على قناعة مفادها بأن ردع أنقرة واحتواءها وعزلها وفرض العقوبات عليها يمكن أن يسفر عن تحقيق الاستقرار في منطقة شرق المتوسط في المدى المنظور، رغم تخوف بعض الأطراف من أن يكون ذلك بابا مفتوحا لمعارك استنزاف طويلة الأمد تنذر بسيناريوهات كارثية تؤدي إلى اشتعال المنطقة.
وربما تكون القمة الرباعية، التي ستضم مصر وقبرص واليونان وفرنسا في القاهرة في يناير/كانون الثاني الجاري أول التحركات الدبلوماسية الفاعلة التي سوف تختبر مثل هذه القناعات، وسيتبعها أيضا لقاء قمة يونانية- أمريكية.
وفي الوقت نفسه، من المتوقع أن تسعى اليونان إلى تسريع عملية ترسيم المناطق الاقتصادية الخالصة مع إيطاليا ومصر في أسرع وقت ممكن، ردا على ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا.
ومن المرجح أيضا أن تتجاوب كثير من القوى الفاعلة في المنطقة مع دعوة رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح لسحب الاعتراف بحكومة الوفاق التي يرأسها فايز السراج بشكل إيجابي "خلال الأيام القادمة".
كما من المتوقع أيضا زيادة الدور العسكري اليوناني والفرنسي والقبرصي والإيطالي في المنطقة.
وهذا الوضع قد يؤدي إلى اشتعال التنافس والصراع، وربما الحرب، بين دول منطقة شرق المتوسط في المدى المنظور، مع التوقعات بأن يتجه الرئيس التركي إلى المغامرة والتصعيد المستمر في شرق المتوسط، من أجل رفع شعبيته المتدهورة في الداخل قبل الانتخابات المقبلة في تركيا، والتي ستجري في عام 2023.