منتدى غاز شرق المتوسط يمثل خطوة كبرى تحسم التنافس بين جيران كنز الغاز الطبيعي الأكبر في العالم وإجهاضا لأحلام تركيا
في ضربة قاضية للمؤامرات التركية وانتصار حاسم للإرادة والرؤية المصرية في حرب الطاقة أعلن وزراء الطاقة في 7 دول من القاهرة أول أمس إنشاء "منتدى غاز شرق المتوسط"، على أن يكون مقره العاصمة المصرية القاهرة، بهدف تأسيس منظمة دولية تحترم حقوق الأعضاء في مواردها الطبيعية بما يتفق ومبادئ القانون الدولي، ودعم جهود الدول الأعضاء في الاستفادة من احتياطياتهم من الغاز، واستخدام البنية التحتية، وبناء بنية جديدة، بهدف تأمين احتياجاتهم من الطاقة لصالح رفاهية شعوبهم.
تبقى المحصلة الرئيسية لتدشين هذا المنتدى أن كل دول شرق المتوسط المنتجة للغاز أصبحت تقف متحالفة ومترابطة المصالح في جانب، فيما بقت تركيا وحدها مع الجزء الذي تحتله من قبرص في الجانب الآخر
الدول المشاركة في إنشاء المنتدى بالإضافة إلى مصر هي: إيطاليا، واليونان، وقبرص، والأردن، وإسرائيل، وفلسطين، على أن تكون العضوية مفتوحة لمن يرغب بذلك، تمثل هذه الخطوة الكبرى حسماً للتنافس بين جيران كنز الغاز الطبيعي الأكبر في العالم بمنطقة شرقي البحر المتوسط، وإجهاضاً لأحلام تركيا التي خططت وسعت منذ سنوات إلى الهيمنة على سوق الطاقة في هذه المنطقة، ومحاولة الاستيلاء على ثرواتها عبر عمليات تنقيب غير شرعية بغية التحول إلى مركز إقليمي لتجارة الغاز الطبيعي، لكن مصر كانت دائما سابقة بخطوات في إطار سعيها لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز ثم التحول إلى تصديره وانتهاء بالتحول إلى مركز إقليمي لتجارة الغاز عبر أراضيها، في ظل تنافس شديد مع تركيا التي أزعجتها التحركات المصرية الواعية والمحسوبة في هذا الصدد، واستمر الأمر سجالاً بين الدولتين إلى أن تمكنت مصر من قلب المعادلة بعد اكتشاف حقل "ظهر" العملاق، وبدء الإنتاج منه بشكل مبكر عما كان مخططاً له، ثم اكتشاف حقل "نور" البحري العملاق، الذي أضاف عنصراً جديداً إلى المشهد باحتوائه على نحو 60 تريليون متر مكعب من احتياطي الغاز وفقاً للتقديرات المبدئية، وهو ما يعد أكثر من ضعف الاحتياطي لحقل ظهر البالغ 30 تريليون قدم مكعبة، الأمر الذي أربك الحسابات التركية، وهو ما تجلى في التصريحات التركية التي غلب عليها التخبط نتيجة وقع المفاجأة الذي أحدثته الخطوة المصرية، ومن بين هذه التصريحات كان إعلان مولود تشاووش أوغلو وزير الخارجية التركي، في فبراير الماضي، تخطيط بلاده للبدء في أعمال تنقيب عن البترول والغاز شرق البحر المتوسط باعتباره حقاً سيادياً لتركيا، زاعماً أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص التي بدأت بمقتضاها مصر في الكشف عن الغاز شرق المتوسط لا تحمل أي صفة قانونية، وبعدها لوح أردوغان باستخدام القوة لحماية حقوق القبارصة الأتراك في الغاز الطبيعي المكتشف بشرقي المتوسط، الأمر الذي أثار توتراً وجدلاً كبيراً مع مصر، وهنا لم تكتفِ القاهرة بالرد على هذه التصريحات بتصريحات مماثلة تؤكد أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية المشار إليها لا يمكن لأي طرف أن ينازع في قانونيتها، حيث تتسق وقواعد القانون الدولي، وتم إيداعها كاتفاقية دولية في الأمم المتحدة، كما لم تكتف مصر بالتحذير من أي محاولة للمساس أو الانتقاص من حقوق مصر السيادية في تلك المنطقة، والتأكيد على أنها مرفوضة، وسيتم التصدي لها، فالأهم من ذلك أن مصر ردت بخطوات عملية عدة فرضت فيها أمراً واقعاً وأكدت فيها كامل حقها في استغلال كامل ثرواتها الطبيعية وأكدت من خلالها أن سعيها للتحول إلى مركز إقليمي وطريق رئيسي لتجارة الغاز أصبح خياراً استراتيجياً للدولة المصرية لا رجعة عنه ولا سماح بوجود منافس فيه.
ولعل أبرز الخطوات هنا تمثلت في تعميق التعاون والتفاهم مع قبرص واليونان لتحقيق الاستفادة المشتركة للدول الثلاث، والاستغلال الاقتصادي الأمثل لاكتشافات الغاز في منطقة شرق المتوسط، وهو الأمر الذي تكلل في توقيع مصر وقبرص اتفاقاً في سبتمبر الماضي لنقل غاز حقل أفروديت القبرصي (الذي يتراوح احتياطيه ما بين 3.6 تريليون و6 تريليونات قدم مكعبة) لمصانع الإسالة في مصر لإعادة تصديره وإنشاء خط غاز بحري مباشر بين البلدين.
اتفاق "القاهرة-نيقوسيا" كان الخطوة العملية الأكثر أهمية التي وضعت مصر على بورصة الغاز العالمية، وكان اللبنة الأولى التي جعلت القاهرة عملياً مركزاً إقليمياً لتجارة الغاز في المنطقة، نظراً لما يمكن أن يسهم به هذا الاتفاق في تأمين إمدادات الغاز للاتحاد الأوروبي عبر عمليات التصدير وإعادة التصدير، فنظراً لما تملكه مصر من بنية تحتية جاهزة لأعمال التصدير ومن بينها منشآت ضخمة لتسييل الغاز على ساحل البحر المتوسط في دمياط وإدكو فهذا يعني أن القاهرة لن تحتاج إلى استثمارات ضخمة لنقل فائض غازها إلى الأسواق الخارجية وإعادة تصدير غاز الدول الصديقة الأخرى بعد تسييله في مصانعها، وهنا فإن الأفضلية الموجودة لدى مصر من الناحية اللوجستية دفعت لاعبين رئيسيين في سوق الغاز بالانضمام إليها، ومن بينها اليونان وقبرص، ولعل هذا ما يفسر التفاهمات المتزايدة بين الأطراف الثلاثة والتي عززها عمق التقارب بين القيادات السياسية في الدول الثلاثة، الأمر الذي أغرى بقية الدول الفاعلة في سوق الغاز في شرق المتوسط بالانضمام إلى تحالف الدول الثلاثة، وهو ما تجلى في الخطوة الأخيرة التي تمثلت في تدشين "منتدى غاز شرق المتوسط EMGF" قبل أيام في القاهرة، والذي شهد انضمام 4 دول أخرى هي إيطاليا والأردن وإسرائيل وفلسطين، ليصبح تحالفاً سباعياً مرشحاً للزيادة لأن المنتدى سيكون مفتوحاً لأي من دول شرق البحر المتوسط المنتجة أو المستهلكة للغاز، أو دول العبور ممن يتفقون مع المنتدى في المصالح والأهداف بعد استيفاء إجراءات العضوية اللازمة التي يتم الاتفاق عليها بين الدول المؤسسة. ولعل أولى الدول المرشحة للانضمام لهذا المنتدى هي لبنان مع تحقيقه اكتشافات يمكن أن تضعه على خريطة إنتاج الغاز، وكذلك سوريا بعد عودتها لسياقها العربي الذي أبعدت عنه، وهنا تبقى المحصلة الرئيسية لتدشين هذا المنتدى أن كل دول شرق المتوسط المنتجة للغاز أصبحت تقف متحالفة ومترابطة المصالح في جانب، فيما بقت تركيا وحدها مع الجزء الذي تحتله من قبرص في الجانب الآخر.
الدول المشاركة في المنتدى اتفقت على التعاون فيما بينها في مجال استخراج الغاز الطبيعي، كما اتفقت على التعاون في تصديره من خلال استغلال البنية التحتية المصرية ومصانع الإسالة، والتي ستساعد هذه الدول في تحويل الغاز الطبيعي إلى غاز مسال وتصديره إلى الدول الأوروبية، إضافة إلى مد خطوط بين هذه الدول للاستفادة من إنتاج الغاز بينها.
ومن بين أهداف المنتدى التي وردت في إعلان القاهرة التأسيسي العمل على إنشاء سوق غاز إقليمي يخدم مصالح الأعضاء من خلال تأمين العرض والطلب، وتنمية الموارد على الوجه الأمثل وترشيد تكلفة البنية التحتية، وتقديم أسعار تنافسية، وتحسين العلاقات وتعزيز التعاون من خلال خلق حوار منهجي منظم وصياغة سياسات إقليمية مشتركة بشأن الغاز الطبيعي، بما في ذلك سياسات الغاز الإقليمية، ودعم الأعضاء أصحاب الاحتياطيات الغازية والمنتجين الحاليين في المنطقة في جهودهم الرامية إلى الاستفادة من احتياطياتهم الحالية والمستقبلية، من خلال تعزيز التعاون فيما بينهم، والاستفادة من البنية التحتية الحالية وتطوير المزيد من خيارات البنية التحتية، ومساعدة الدول المستهلكة في تأمين احتياجاتها وإتاحة مشاركتهم مع دول العبور في وضع سياسات الغاز في المنطقة.
الاتحاد الأوروبي كان حاضرا وشارك في اجتماع القاهرة الخاص بإعلان المنتدى مشجعاً خطوة إنشائه، سعياً منه للحد من اعتماده على الغاز الروسي، والذي يمثل نقطة شائكة في علاقات الطرفين وسط خلافات سياسية متكررة بينهما، وهنا لا نستبعد انضمام الاتحاد الأوروبي لاحقاً لهذا المنتدى، لأنه حسب بيان إعلان المنتدى فإنه سيكون مفتوحاً أيضا لانضمام أي منظمات إقليمية أو دولية بصفة مراقبين.
إعلان القاهرة التأسيسي بإنشاء منتدى غاز شرق المتوسط بمثابة خطوة محورية في تحقيق حلم مصر في التحول إلى مركز إقليمي لتجارة لغاز الطبيعي، لما ستجنيه من عائد نظير تحويلها الغاز الطبيعي لبقية الدول المشاركة في المنتدى، ومع الوقت الغازين اللبناني والسوري أيضاً، إلى غاز طبيعي مسال وإعادة تصديره بجانب الغاز المسال المصري إما إلى أوروبا أو آسيا-المحيط الهادئ، حيث يزداد الطلب على الغاز الطبيعي المسال بوتيرة سريعة، في المقابل يمكن أن يمثل إنشاء هذا المنتدى نهاية رسمية لحلم تركيا في أن تكون مركزاً للطاقة، وهو الأمر الذي سعت إليه طويلاً استغلالاً لموقعها الاستراتيجي الذي حاولت من خلاله تعويض فقر موارد الطاقة، بوقوعها عند مفترق الطرق بين جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق ودول الشرق الأوسط الغنية بالنفط والغاز، والدول الأوروبية التي تحتاج إلى إمدادات النفط والغاز، والخلاصة هنا أنه بإنشاء هذا المنتدى فإن حلماً مصرياً يتحقق وآخر تركي يتبخر.
وأخيراً يمكن القول إن إعلان القاهرة يمثل خطوة أولى مهمة لتأسيس كيان أو تجمع عملاق لتجارة الغاز نظراً لحجم الاحتياطات الضخمة التي تملكها دوله السبعة والتي تدور حول 122 تريليون قدم مكعبة من الغاز، وهناك أفكار كثيرة يمكن بلورتها لكي يخرج هذا الكيان في أفضل صورة ممكنة تضمن بقاءه واستمراريته وفاعليته وتأثيره في سوق الغاز الدولية، ويتبقى ثلاثة أشهر حتى موعد الاجتماع المقبل في أبريل المقبل، وهي فترة كافية للخروج بتصورات خلاقة حول هيكل المنتدى وأجهزته الرئيسية وآلية اتخاذ القرارات فيه بما يمكن أن يفرضه رقماً صعباً في سوق الطاقة الدولية، ويقطع الطريق أمام محاولات دول إقليمية مثل تركيا وقطر وإيران وقوى دولية مثل روسيا في التحكم في تفاعلات هذا السوق أو التلاعب به، في وقت طغى فيه الاقتصاد على السياسة، وأصبحت خطوط الغاز هي التي تحدد خريطة التحالفات وطبيعة التفاعلات في الساحتين الإقليمية والدولية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة