المتغيرات السياسية والأحداث هي التي تثبت جدوى السياسة أو فشلها
كي تستطيع الحكم على أي تجربة إعلامية لا بد من الارتكان إلى مجموعة من المحددات التي تمثل مختبرا فعليا للتجربة، أولها الزمن ثانيها الأحداث والمتغيرات السياسية وغير السياسية. فالزمن هو المعيار الأول الذي يثبت فاعلية أي سياسة إعلامية أي قياس فاعلية أو ديمومة أي منظومة إعلامية خلال فترة زمنية محددة.
أما المتغيرات السياسية والأحداث فهي التي تثبت جدوى السياسة أو فشلها. بالتالي مرت الدول التي استثمرت فقط في الإعلام الداخلي والدول التي استثمرت في الإعلام الخارجي بمجموعة من الأحداث خاصة السياسية، ما جعلها في مواجهة سؤال مصيري: هل كانت السياسة الإعلامية التي اتبعتها أي من هذه الدول حامية وداعمة ومعبرة عنها في أزماتها؟
في المقال السابق تحدثت عن مصر باعتبارها رائدة الإعلام الداخلي وبقليل من الدراسة وتقيم التجربة التي امتدت منذ ديسمبر 1990 حتى ديسمبر 2019 نقول إن السياسة الإعلامية المصرية في هذه المرحلة كونها اعتمدت على الإعلام الداخلي فقط لم تسطع أن تكون معبرة عن بلد بحجم مصر، خاصة في التحديات الخارجية حتى الداخلية.
فعلى مدار ثورتين "25 يناير و30 يونيو" وعلى مدار ثلاثة أنظمة سياسية "مبارك، مرسي، والنظام الحالي" نستطيع أن نؤكد أن الإعلام الداخلي لم يلتصق بالشعب ولم يرمم العلاقة بين طبقات المجتمع والحكومات.
رغم أن مصر في خمسينيات القرن الماضي اعتمدت سياسة الإعلام الخارجي ونجحت في أن تكون مؤثرة عربيا وأفريقيا، فقد أسست منظومة الإذاعات الموجهة التي كانت تضم سبع عشرة إذاعة "إذاعة موجهة وتبث بـ23 لغة أجنبية، بالإضافة إلى الفرنسية والإنجليزية وكان عدد ساعات البث 61 ساعة، ويعمل في هذه الإذاعات 4500 شخص"، وجميع الأشقاء في العالم العربي من جيل الخمسينيات يتذكرون جيدا قيمة "إذاعة صوت العرب مثلا"، لكن الذي حدث في الثمانية عشر عاما المنقضية قللت من دور دولة بحجم مصر ولم تكن على ذلك مستوى تحديات الخارج.
كان يجب أن يكون لمصر أذرع في الإعلام الخارجي بكل أشكاله، فالتهديدات دائما تأتي من الداخل كما تأتي من الخارج، والركيزة الأساسية في حماية الأمن القومي لأي دولة أن يكون لديها إعلام داخلي يتعامل مع التحديات الداخلية وإعلامي خارجي يتعامل مع التحديات الخارجية، وهنا سأنتقل إلى النموذج الآخر للحالة التي أقدمها للقارئ الكريم، وهو نموذج الإعلام الخارجي، الدولة التي استخدمت الإعلام الخارجي وهي المملكة العربية السعودية.
لقد كان الإعلام الخارجي هو الذراع الأهم في تطبيق منظومة دفاعية قوية لمفهوم الأمن القومي الإعلامي العربي، خاصة أن تهديدات الأمن القومي العربي في معناه العام كانت موضوعة على صواريخ إعلامية حاملة لرؤوس مهددات سياسية تارة وأخرى مهددات اقتصادية واجتماعية حتى أخلاقية تارة أخرى.
المملكة العربية السعودية، منذ ميلاد التجربة الفضائية العربية ديسمبر 1990 وهي واضحة في انتهاج سياسة إعلامية تتبنى الإعلام الخارجي وهنا تنبيه واجب ومهم "أنني حين أتحدث عن التجربة الإعلامية السعودية أو المصرية فأنا هنا لا أقصد الدولة بمعناها المؤسساتي والحكومي فقط وإنما أقصد ما يمتد إلى ما هو أوسع من ذلك حتى الاستثمار الفردي".
منذ بداية التجربة الفضائية العربية عام 1990 وبعد انطلاق القناة الفضائية المصرية انطلقت شبكة "مركز تلفزيون الشرق الأوسط" MBC في سبتمبر 1991 واختارت لندن مركزا لانطلاقها، واعتبرت وقتها هي رائدة الإعلام الفضائي الخاص، أول قناة فضائية عربية خاصة.
ظل المركز الرئيس لها في لندن حتى 2002، حيث انتقلت إلى دبي لتبدأ ميلادا ثانيا هو الأهم، حيث زاد تنوعها وكثرت قنواتها لتصل إلى ما وصلت إليه الآن باعتبارها الشبكة الأكبر والأهم في الشرق الأوسط كله وليس في العالم العربي، وأنا شخصيا أتشرف بأنني واحد من العاملين بها.
وأشير هنا إلى صاحب هذه التجربة وهو "الشيخ وليد الإبراهيمي" مالك المجموعة وصاحب فكرة الانطلاق، بعد 28 عاما يمكن القول إن هذه المجموعة مثلت الذراع الإعلامي العربي غير الحكومي الأهم، لم تكن غاية المشروع المشاكسة في الأنظمة ولا الموالاة لها بل كانت تسعى بهدوء إلى غاية أهم وهي حماية "الأمن القومي الإعلامي العربي" بمعناه الواسع اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا حتى دراميا وفنيا.
"قناة العربية" الإخبارية إحدى قنوات مجموعة "MBC" انطلقت في توقيت زمني شديد الدقة في مارس عام 2003 مع بداية احتلال العراق وكما يقال عنها دائما إنها ولدت كبيرة وقوية واستمرت في قوتها حتى اللحظة التي أكتب فيها المقال وكنت واحدا من أبنائها الذين انضموا إليها في بدايات انطلاقها ولا يزالون حتى الآن، ويمكن القول إن قناة العربية لعبت دورا مهما في إحداث توازن إعلامي فقد أسست ما يسمى إعلام الاعتدال في مواجهة إعلام آخر متطرف دون ذكر أسماء.
مع انطلاق موجة الربيع العربي في 2011 كانت سرعة الأحداث السياسية أكبر من قدرة أي قناة على المتابعة، كنا جميعا نلهث خلف الأحداث حتى انطلقت قناة "الحدث" وهي خدمة إخبارية من قناة العربية كان ذلك في يناير 2012 لتشكل نموذجا إخباريا سريعا ومكثفا وعلى مدار ثمانية أعوام استطاعت قناة الحدث أن تنافس بقوة على الساحة بل تتصدر أحيانا.
بعد ثلاثة أعوام من انطلاق "MBC" وتحديدا في 1994 انطلقت شبكة أوربت الإعلامية وكانت أيضا تجربة فريدة فهي أول قناة رقمية بالكامل ومتعددة القنوات وهي مملوكة للشركة السعودية موارد القابضة، ظلت تعمل بنجاح كامل حتى اندمجت مع شبكة "شوتايم" 2009 تحت اسم "شبكة أوربت شوتايم" وهي أيضا تصنف في إطار الإعلام الخارجي.
شبكة راديو وتلفزيون العرب "A R T" انطلقت في أكتوبر 1993وهي مملوكة لرجل الأعمال السعودي الشيخ صالح كامل، وكانت رائدة باعتبارها أول شبكة تلفزيون مشفرة، كما أنها صنفت باعتبارها أول شبكة تلفزيونية متخصصة في العالم العربي، حيث شملت باقة قنوات منوعة "أفلام وموسيقى ورياضة ومنوعات".
كان الانطلاق الأول لها من العاصمة الإيطالية روما، ثم انتقلت إلى العالم العربي للعمل عبر عدد من العواصم " القاهرة - بيروت - عمان - جدة"، وهي أيضا ليست موجهة للداخل السعودي بل موجهة عربيا وإقليميا، أي أنها تصنف باعتبارها إعلاما خارجيا إقليميا عربيا.
لم يكن الأمر قاصرا فقط على القنوات الفضائية في اتباع سياسة الإعلام الخارجي بل تنوعت التجربة وتحركت على عدد من الأذرع المؤثرة، وكان للصحافة الورقية دور مهم ومؤثر وبارز، وهنا أذكر صحيفتين صنفتا على أنهما أشهر صحيفتين ورقيتين في العالم العربي خلال العشرين سنة الماضية، وهما جريدة الشرق الأوسط العريقة فقد صدر العدد الأول منها في يوليو عام 1978 يملكها الأمير تركي بن سلمان والناشر المجموعة العربية للأبحاث والتسويق، وقد أصبحت جريدة الشرق الأوسط في وقت من الأوقات أشهر من الشرق الأوسط نفسه كما يعبر عنها البعض.
جريدة الحياة اللندنية أسسها كامل مروة عام 1946 واختار لندن مقرا لها وفي عام 1996 اشتراها الأمير "خالد بن سلطان" وكانت لها ثلاث طبعات طبعة تصدر في لبنان وأخرى تصدر في الرياض وأخرى في لندن.
مؤخرا للأسف توقفت جميع طبعاتها وأعتبر ذلك يوما أسود في تاريخ الصحافة العربية، طبعا التوقف يعود لسبب اقتصادي، بسبب تراجع الصحافة الورقية في مقابل الصحافة الرقمية.
بعد رصد تلك الأذرع الفاعلة في تجربة عملية ملموسة لتبني سياسة الإعلام الخارجي يمكن أن نطبق قاعدة الاختبار الأهم وهي كيف كانت تلك الأذرع فاعلة ومؤثرة في مواجهة ما تعرضت له المملكة العربية السعودية أو دول الخليج أو حتى مصر وعموم العالم العربي؟
الجواب قدمه الزمن وبرهنت عليه الأحداث والنوازل، لقد كان الإعلام الخارجي هو الذراع الأهم في تطبيق منظومة دفاعية قوية لمفهوم الأمن القومي الإعلامي العربي، خاصة أن تهديدات الأمن القومي العربي في معناه العام كانت موضوعة على صواريخ إعلامية حاملة لرؤوس مهددات سياسية تارة وأخرى مهددات اقتصادية واجتماعية حتى أخلاقية تارة أخرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة