السوق الثاني المهم الذي تبدو فيه آثار هذه الحرب واضحة هو سوق النفط العالمية.
بدأت آثار حرب التجارة بين الولايات المتحدة والصين تصبح أكثر وضوحا وتواترا خلال الأسابيع الأخيرة. والواقع أن هذه الآثار قد امتدت لتشمل أغلب الأسواق والسلع والبلدان كما هو متوقع، ولم تقتصر على طرفيها فقط، كون الطرفان هما أكبر اقتصادين في العالم.
إن آثار حرب التجارة الأمريكية-الصينية قد لا تترك سوقا أو بلدا دون أن تكون لها آثار سلبية عليه يستوي في ذلك أسواق المال والسلع وربما قريبا أسواق العمل بحكم توقع انخفاض مستوى النشاط الاقتصادي الذي بات يهيمن على جميع المتعاملين في هذه الأسواق
وربما يكون من أهم التطورات في هذا السياق ما تشهده أسواق المال العالمية من عزوف عن المخاطرة مما يؤدي إلى انخفاض مؤشرات هذه الأسواق، حيث إن التوقع السائد هو تأثير حرب التجارة سلبيا على النشاط الاقتصادي في المستقبل، وبالتالي ستكون أرباح الشركات أقل خاصة أن ذلك يترادف مع توقع تباطؤ في التجارة الدولية، مما يجعل الآثار أكثر انتشارا. وقد أدى هذا العزوف إلى اتجاه المستثمرين للاستثمار في الملاذات الآمنة، مما أدى إلى زيادة أسعار الذهب إلى أعلى مستوى لها في ثلاثة أشهر خلال الأسبوع الحالي.
السوق الثاني المهم الذي تبدو فيه آثار هذه الحرب واضحة هو سوق النفط العالمية، فتحت ضغط إمكانية تأثر مستوى النشاط الاقتصادي بالانخفاض، من الطبيعي أن ينخفض الطلب أيضا على استهلاك المواد الأولية وعلى رأسها النفط.
وانخفض سعر برميل نفط برنت خلال الأسبوع الحالي بنحو 20% مقارنة بأعلى سعر بلغه في نهاية شهر أبريل الماضي. ويعد السعر الحالي الذي يدور حول 61 دولارا للبرميل هو أقل سعر له منذ شهر يناير الماضي، وبالطبع مع اشتداد حرب التجارة فسوف يشمل ذلك العديد من السلع الأولية الأخرى التي سينخفض الطلب عليها مثل المعادن كالنحاس والحديد وغيرها من السلع، وجزء كبير من التجارة العالمية في هذه السلع مصدره البلدان النامية.
أما على مستوى الدول فرغم تباين التأثر حسب درجة ارتباط كل بلد بالتعامل التجاري مع هذا الطرف أو ذاك، إلا أن الأمر المؤكد أنه مع انخفاض وتيرة نمو التجارة الدولية فأغلب دول العالم سواء المتقدم أو النامي سينالها هذا التأثير.
ويأتي بالطبع على رأس المتأثرين الطرفان المباشران في هذه الحرب أي الصين والولايات المتحدة، فتشير بعض الدراسات الاقتصادية إلى أن النمو الاقتصادي الصيني قد ينخفض بما يتراوح بين 0.7% و0.9% في العام المقبل في حال امتدت حرب التجارة لتشمل كافة السلع المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة، وقد تجد الصين أسواقا بديلة لبعض سلعها إلا أنه في ظرف تقلص حجم التجارة، فإن ذلك سوف يكون في كافة الأحوال محدودا نسبيا.
أما في الولايات المتحدة، وبالرغم من آراء الرئيس الأمريكي الذي يؤكد أن بلاده لن تشهد أي آثار سلبية، وأن فرض رسوم جمركية على السلع الصينية المستوردة لن يؤدي إلى ارتفاع معدل التضخم، ولن يؤثر سلبا على معدلات النمو، بل إن هذه الرسوم الجمركية تمثل دخلا صافيا للخزانة الأمريكية، فإن العديد من التقديرات والدراسات تشير إلى العكس من ذلك تماما.
فالتوقع السائد هو أنه من المحتمل أن يعاني اقتصاد الولايات المتحدة بسبب الرسوم الجمركية المرتفعة، فقد أشار العديد من المراقبين إلى أن المستهلكين الأمريكيين سوف يتحملون عبء الجزء الأكبر من التكاليف من خلال دفعهم لأسعار أعلى لشراء السلع أو تخفيض استهلاكهم منها، فأسعار بعض الملابس سوف يرتفع، وكذلك الأحذية حيث إن نحو 69% من كافة الأحذية المبيعة في الولايات المتحدة في عام 2018 كان مصدرها الصين.
ويقدر المحللون في مؤسسة أكسفورد للاقتصاد أنه إذا ما طبقت الإدارة الأمريكية تعريفة جمركية أعلى قدرها 25% على كافة السلع المستوردة من الصين، وردت الصين بالتالي بإجراء انتقامي من نفس النوع، فمن المقدر أن ينخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بنحو نصف نقطة مئوية خلال العام المقبل. وهو انخفاض كبير من معدل نمو لا يزيد حاليا سوى بقليل على 2%.
وإضافة إلى الآثار القصيرة الأجل الراهنة، فإن رفع الرسوم الجمركية سوف يكون له آثار أكثر سوءًا في الأجل الطويل على الاقتصاد الأمريكي. ويرجع هذا إلى أن نسبة كبيرة من الواردات الأمريكية من الصين هي من مدخلات الإنتاج، والرسوم الجمركية الأعلى ستعني أن هذه المكونات ستكون أكثر تكلفة أو أكثر ندرة، وهو ما يضر بالإنتاجية في الولايات المتحدة ويضعف من القدرات التنافسية للسلع الأمريكية في العديد من البلدان الأخرى ويقتطع نسبة كبيرة من النمو المحتمل في المستقبل.
ففي عام 2018 على سبيل المثال استوردت الولايات المتحدة ما تصل قيمته إلى 29.8 مليار دولار من الملابس من الصين، إضافة إلى 20 مليار دولار من الجلود والمصنوعات الجلدية. وفرض رسوم جمركية أعلى على هذه المنتجات سوف تضر قطعا بالمستهلك الأمريكي، ولكن الولايات المتحدة أنفقت أكثر بكثير على استيراد مدخلات الإنتاج وهو ما يصل إلى 69% من إجمالي الواردات من بينها 186.5 مليار دولار واردات من أجهزة الكمبيوتر والإلكترونيات، ونحو 88.6 مليار دولار من المعدات الكهربائية والآلات، ولو ظلت الرسوم الجمركية على هذه السلع مرتفعة، فإن الولايات المتحدة مهددة بأن تفقد قدراتها التنافسية في أسواق البلدان الأخرى.
إضافة إلى ذلك هناك آثار واضحة بدأت تظهر فعلا في عدد من البلدان المتقدمة التي لديها تعاملات تجارية قوية مع البلدين، فألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية لديها تعامل تجاري كبير مع الصين، وجزء من صادراتها للصين هو جزء من سلاسل الإنتاج (مكونات الإنتاج والآلات) التي تدخل في صناعة سلع صينية تتوجه بشكل رئيسي للسوق الأمريكي.
ومع انخفاض مستوى الصادرات الصينية للولايات المتحدة تحت تأثير الرسوم الجمركية المرتفعة، من المؤكد أن تنخفض الواردات الصينية من هذه البلدان. وهو الأمر الذي بات محسوسا منذ الآن، حيث تميل أسواق المال في هذه البلدان وغيرها إلى الانخفاض، ويشهد النمو الاقتصادي تباطؤا واضحا خلال الشهور الأخيرة.
ومن آخر البيانات في هذا الصدد انكماش الناتج المحلي الإجمالي في كوريا الجنوبية بمقدار 0.4% خلال الربع الأول من هذه السنة مقارنة بالربع الأخير من العام الماضي.
لذلك، فإن آثار حرب التجارة الأمريكية-الصينية قد لا تترك سوقا أو بلدا دون أن تكون لها آثار سلبية عليه يستوي في ذلك أسواق المال والسلع وربما قريبا أسواق العمل بحكم توقع انخفاض مستوى النشاط الاقتصادي الذي بات يهيمن على جميع المتعاملين في هذه الأسواق، كما أن هذه الآثار لن تترك في الغالب بلدا ناميا أو متقدما إلا وطالته بحكم الميل لتدهور مستوى التجارة الدولية، وما يرتبط بهذا من انخفاض في الطلب على السلع المختلفة سواء كانت سلعا أولية أو سلعا صناعية أكثر تعقيدا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة