ما جرى الجمعة في صعيد مصر حلقة جديدة من حلقات الإرهاب الأسود الذي يستهدف مصر بمسيحييها ومسلميها.
بمداد أحمر قاني بلون دم شهداء مصر، ورغم الألم والحزن القاسيين الجاثمين على صدور المصريين نرفع معا صوتا واحدا إلى عنان السماء.. لن تنكسر مصر ولن تسقط راياتها الخفاقة في الأفق.
ما جرى الجمعة في صعيد مصر حلقة جديدة من حلقات الإرهاب الأسود الذي يستهدف مصر بمسيحييها ومسلميها، فمن قتل من قبل في مسجد بئر العبد ثلاثمائة مصلّ من السجد الركوع هو نفسه من وجّه طلقات الغدر من قبل لزوار أحد أديرة جنوب مصر، قبل أن يعاود فعلته الشنعاء مرة أخرى.
يحتاج المشهد المصري إلى قليل من العقلانية لتحليله، وهو أمر في واقع الحال صعب ومرير، لا سيما إذا كانت الرؤوس ساخنة غير قادرة على التفكير الإيجابي المنظم والمرتب.
عشية المجزرة الأخيرة كانت مصر على موعد مع انطلاق مؤتمر الشباب العالمي الذي بات يمثل حدثا عالميا على أرض المحروسة، شباب يجتمع ليبسط رؤية للسلام العالمي، ويباعد كثيرا شبح الخصام وصراع الحضارات، فهل كان هناك من يريد إفساد العرس المصري القائم على أرض شرم الشيخ مدينة السلام؟نعم.. استهدف الإرهاب في الأعوام الأخيرة مسيحيين مصريين بصورة غير مسبوقة، وهذا أمر يحتاج إلى التساؤل لماذا؟ وهل المسيحيون المصريون فريق وافد ظهر بالأمس واكتشف البعض أنه يعيش على ضفاف النهر، وأنه قد حان الوقت لقطاف رؤوسهم؟
القضية على غير هذا النحو بالمرة، إنها قضية استهداف وطن، عبر الطعن في منطقة يرى الذين يخططون لمؤامراتهم تجاه مصر أنها تمثل البطن الرخوة، لا سيما أنهم نسيج من الجماعة الوطنية المصرية المسالمة والتي لا دلالة عليها على العنف في الماضي أو الحاضر.
ربما يدفع المسيحيون في أرض الكنانة اليوم ثمنا جديدا وممتدا لرفضهم العصابات الإخوانية التي أرادت أن تختطف مصر، وكانت مشاركتهم بكثافة في ثورة 30 يونيو 2013 مجلبة للكثير من المعاناة عليهم.
في أغسطس من العام عينه وبعد فض اعتصامي رابعة والنهضة أشعل الإخوان المسلمون النيران في نحو مائة كنيسة ودير ومدرسة ومنشأة تخص المسيحيين المصريين، على أمل دفعهم لارتكاب عنف مقابل، ما يغرق مصر المحروسة في حمامات دم أهلية، غير أن كبير القبط البابا تواضروس قال يومها كلمته الشهيرة: "وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن"، واعتبر أن الدخان الذي صعد إلى السماء في ذلك النهار المؤلم لم يكن إلا بخور مرفوع من أجل خير مصر.
عام واحد بعد الحادث الحزين هذا كان الرئيس السيسي يعد بأن يعاد بناء كل ما احترق أو تهدم من كنائس وأديرة، وقد أوفى الرجل بكل ما وعد به، بل زاد على ذلك ببناء أكبر كاتدرائية في الشرق الأوسط وأفريقيا في العاصمة الإدارية الجديدة على نفقة الدولة، وكان هو أول المتبرعين لها، مع المسجد المماثل، الأمر الذي فوت الفرصة على دعاة التفريق وأصحاب الفتنة.
استمر الإرهاب يضرب ذات اليمين وذات اليسار، يقتل في المسيحيين تارة والمسلمين تارة، وبما أن المسيحيين المصريين أقلية عددية لا نوعية، لذا فإن الطعنات التي توجه إلى صدورهم تكون مضاعفة من حيث الأثر النفسي، وعليه فإنه إن قبل العقلاء منهم فَهْم المشهد الإقليمي والدولي على حقيقته فإن هناك من المتهورين والمدفوعين بالعاطفة في الداخل أو الموتورين في الخارج، وليس شرطا أن يكونوا مصريين من الأصل، من يحاولون استغلال المشهد كل حسب مأربه.
السؤال الجوهري الواجب طرحه على مائدة التفكير بشكل عاجل.. هل اعتداء الأمس الإرهابي حادث مجرد أم أنه حلقة ضمن سلسلة كبرى من الخطط المعدة لمصر بليل بهيم؟
لا نهون ولا نهول، لكن لا ينبغي أن يغيب عن رؤيتنا ربط الأحداث ببعضها، فعشية المجزرة الأخيرة كانت مصر على موعد مع انطلاق مؤتمر الشباب العالمي الذي بات يمثل حدثا عالميا على أرض المحروسة، شباب يجتمع ليبسط رؤية للسلام العالمي، ويباعد كثيرا شبح الخصام وصراع الحضارات، فهل كان هناك من يريد إفساد العرس المصري القائم على أرض شرم الشيخ مدينة السلام؟ المسألة أيضا أكبر من ذلك، فالمستهدف هو المشروع المصري برمته، ذلك المشروع الذي يسعى إلى تأسيس دولة حديثة، دولة قانون ومواطنة، دولة عدالة ونزاهة، دولة علم وتعليم، دولة اكتشافات غاز ونفط، وزراعة ملايين الأفدنة وانتشال مصر من وهدة الجوع والفقر.
إنهم يحاصرون مصر في الجنوب من خلال التلاعب على المتناقضات الإثيوبية وحديث مياه نهر النيل، ومن الغرب يناوءونها ويناوشونها بليبيا المرشحة لأن تضحى البديل الجاهز لداعش بعد خسارته في العراق وسوريا.
مثير أمر هذه الضربة الأخيرة، حيث تجيء في أعقاب أيام قلائل على وصول أول فوج سياحي روسي لشرم الشيخ بعد عامين أو أزيد من توقف مرير، وتجيء بعد زيارة ناجحة للغاية للرئيس المصري إلى ألمانيا ومشاركته بل لا نماري إن قلنا قيادته مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مؤتمر التنمية الخاص بأفريقيا، وبعد نجاحات سابقة في زياراته لروسيا والصين وبقية دول العالم.
هل يكرر التاريخ نفسه مع مصر؟ وهل هي القوى الإمبريالية نفسها التي وقفت أمام مشروع محمد علي لنهضة مصر وعملت على إجهاضه، ومن بعده وقفت أمام عرابي مع دخول الإنجليز مصر، ثم كانت الضربة القوية لمشروع عبدالناصر القومي العروبي من خلال نكسة 1967، وصولا إلى اغتيال الرئيس السادات، ثم الدخول في دهاليز الربيع العربي المكذوب والذي حاول تسليم مصر على المفتاح لجماعات الإسلام السياسي سيئة السمعة؟ هل هذه القوى عينها هي التي تريد ضرب مشروع السيسي في مقتل؟
حادث مصر الأخير يؤكد لنا وبما لا يدع مجالا للشك أن هناك نية بعينها لعرقلة مشروع مصر الطموح والخلاق، وأن الربيع العربي الذي خرج من الباب نراه يحاول العودة ثانية من الشباك، ولعلنا نذكر بأن قوى دولية بعينها لن تنسى لمصر أنها أفسدت عليها خططا استراتيجية أممية، ضمن سياقات سيطرتها على العالم طوال قرن بأكمله.
ما تحتاج إليه مصر المحروسة وبقية العالم العربي في هذا التوقيت هو المزيد من التوعية والتعبئة الإدراكية لتبيان ما هو آت، وغالبا لن ينتظر طويلا ضمن أطر منطقة ملتهبة تزداد درجة حرارتها يوما تلو الآخر، إلى أن يقدر لها الانفجار لا سمح الله، وساعتها لن يستطيع أحد توقع النتائج.
طرح القضايا المصيرية دائما وأبدا يبدأ من الذات، والرهان على القوى الوطنية المصرية هو الشأن الوحيد الذي يمكنه أن يساعد على التئام الجروح، ولا يدع أي مجال لشق الصف الإنساني المصري.
رحم الله شهداء الوطن، وحفظ مصر الكنانة من كل شر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة