ما تحتاجه مصر هو نظام إعلامي جديد يقوم على قناة تلفزيونية واحدة، تقدم الخبر والتحليل والثقافة والفكر والفنون والآداب المصرية والعربية.
منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي خرجت مصر من دائرة التأثير الإعلامي في العالم العربي، وفقدت أهم عناصر قوتها الناعمة، وجاء خروجها نتيجة لمنافسة سعودية أولا تمثلت في قنوات مجموعتي MBC وART، ثم قطرية ثانيا مع إطلاق قناة الجزيرة، ثم سعودية/قطرية ثالثاً حين انحسرت المنافسة بين قناتي الجزيرة والعربية.
بعد يناير 2011 هيمن الإعلام المصري الخاص التابع لرجال الأعمال بصورة كاملة على المشهد، وحدثت حالة من الفوضى التي قد تقود إلى تدمير المجتمع وتفكيكه، وإعاقة الدولة وإفشال كل محاولاتها للإصلاح والتطوير والتغيير، وظهرت حالة إعلامية غريبة، لا تعرفها أي دولة في العالم
ومنذ تسعينيات القرن الماضي كذلك ظل الإعلام المصري الخاص بصورة كبيرة، والعام بصورة محدودة، يمثل متنفساً لتفريغ شحنات المعارضة لسياسات الحكومة المصرية، وكانت هذه الرؤية من نظام مبارك سبباً في استقراره لفترة طويلة، بحيث إنه قد أعطى صورة ديمقراطية، ولو شكلية، وخلق مناخاً من الحرية يجعل النظام قادراً على رؤية حقيقة ما يدور في عقول المثقفين والمؤثرين في الرأي العام، فحقق الاستقرار الخامل لفترة طويلة، في وقت كان نزيف القوة الناعمة المصرية مستمراً، وبقسوة شديدة.
وبعد يناير 2011 هيمن الإعلام المصري الخاص التابع لرجال الأعمال بصورة كاملة على المشهد، وحدثت حالة من الفوضى التي قد تقود إلى تدمير المجتمع وتفكيكه، وإعاقة الدولة وإفشال كل محاولاتها للإصلاح والتطوير والتغيير، وظهرت حالة إعلامية غريبة، لا تعرفها أي دولة في العالم، حيث تُعطي المحطات الفضائية مساحات من الزمن تصل للساعتين يومياً لشخص واحد، يصرخ في المشاهدين ويسبهم، ويلعنهم، ويتهمهم بكل التهم من الجهل إلى الخيانة، خمس مرات في الأسبوع لسنوات طويلة تمتد لأكثر من خمس سنوات لبعضهم، هذه البرامج التي تحولت إلى إقطاعيات، أو مستعمرات لبعض الصحفيين، الذين كانوا في خدمة كل النظم السابقة من مبارك إلى الإخوان، بحيث أصبحوا هم الذين يسيطرون على المشهد الإعلامي بصورة كاملة.
وللأسف لم يكن كل هؤلاء على وفاق مع توجهات الدولة المصرية بعد 30 يونيو 2013، وبرامجها التنموية الجادة التي تهدف إلى إعادة بناء الدولة المصرية مثلما فعل محمد علي باشا، وجمال عبدالناصر، وتحول الإعلام في مصر لفترة طويلة إلى عامل إرباك للدولة والمجتمع، ومصدر تشتيت للجهود، ونشر للقيم السلبية، وبث لمشاعر الخوف والإحباط واليأس من خلال التركيز على السلبيات، والجرائم، مواطن النقص والقصور.
نظرا لحالة الفشل الإعلامي الشديد المتوارثة من العهود السابقة، ونظرا لحالة السيولة الإعلامية، وهيمنة الخطاب الشعبوي العاطفي على الإعلام المصري بعد يناير 2011، ونظراً لاستخدام رجال الأعمال قنواتهم الفضائية كوسيلة لتعظيم مكانتهم في مواجهة الدولة، نظراً لكل ذلك فشل الإعلام المصري في ترجمة إنجازات الدولة في مجالات كثيرة أهمها: الطرق، والبنية التحتية، والمدن الجديدة، والكهرباء، والاكتشافات النفطية والغاز.. إلخ، كل هذا الإنجازات لم يتم تسويقها بصورة إعلامية متميزة تدفع الشعب للالتفاف حولها، ومساندتها، وتقطع الطريق أمام وسائل الإعلام المعادية في تركيا وقطر، والتي لا تكف عن نشر الإشاعات، وبث حالة من اليأس وفقدان الأمل، ناهيك كما تقوم به الكتائب الإلكترونية التابعة لتنظيم الإخوان الفاشل من دور تخريبي يصيب النسيج الاجتماعي المصري.
وكان من نتائج هذه الحالة أن الشعب لا يعرف إلا السلبيات، وأن مساحة الشائعات التي تغذيها قناة الجزيرة القطرية، وقنوات الإخوان أصبحت أكثر نفاذية، وأكثر قابلية للتصديق، فالشعب المصري لا يعرف عن الإنجازات التي تقوم بها الدولة، ولا يعرف عن جدوى هذه المشروعات الضخمة، بحيث لا تكاد تسمع إلا السلبيات والأزمات، وفقدان الأمل في المستقبل، والحديث عن الأعباء الاقتصادية، وارتفاع الأسعار والتضخم، والضرائب المتزايدة.. إلخ.
وللخروج من هذه الحالة ينبغي تطبيق نظرية "قطار اليابان الجديد" ولهذه النظرية قصة.. إنه كان في اليابان خطوط سكك حديدية للقطارات بدأت منذ 1872، ثم انهارت تماما مع الحرب العالمية الثانية، وبدأ بعدها نوع من الترميم والإصلاح، والتوسعة لهذه الشبكة، وفي لحظة حاسمة في ستينيات القرن الماضي، وجدت اليابان أن فكرة الإصلاح والترميم مكلفة جداً، ولا تحقق الاستدامة، فما يتم إصلاحه اليوم يتعطل بعد فترة.. وهكذا، لذلك قررت أن تترك القديم كما هو يعمل في حدود طاقته بدون أن تنفق كثيراً على تجديده، وتطويره، وأن تنشئ خطوط سكة حديد جديدة بقطارات جديدة تقوم على تكنولوجيا جديدة، تعمل بالطاقة النظيفة، وليس بالمازوت أو الفحم، وأن تترك للناس حرية الاختيار بين القطار القديم، والقطار الجديد، وكلاهما يذهب لنفس الاتجاهات، وينطلق من أماكن متقاربة.
ومع الزمن بدأ الذين يشتكون من سوء القطار القديم، وتهالك خدماته وينتقلون لاستخدام القطار الجديد، ومع الزمن ترك اليابانيون القطار القديم كلية، ودخل هذا القطار المتحف، وتم تفكيك سكته الحديدية، وانتهى القطار القديم، وصارت هذه التجربة نموذجاً ومثلاً عالمياً، يطبقه الناس في كل مناحي الحياة.
ما تحتاجه مصر هو نظام إعلامي جديد يقوم على قناة تلفزيونية واحدة مثل روسيا اليوم RT، تنطلق بعدة لغات، تقدم الخبر والتحليل والثقافة والفكر والفنون والآداب المصرية والعربية، تعيد لمصر موقعها الفكري الريادي، بصورة حقيقية وليس من خلال التغني بالماضي الجميل، وتترك جميع القنوات الحالية كما هي، فما استطاع منها أن يطور ذاته ويستمر، ستكون له فرصة في الحياة، وما لا يستطيع فمصيره إلى المتحف مع قطار اليابان القديم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة