الأكيد أن شعب وادي النيل كان وراء عودة المياه إلى مجاريها، فيما يتعلق بضرورة عودة العلاقات الطيبة بين البلدين.
الأكيد أن شعب وادي النيل كان وراء عودة المياه إلى مجاريها، فيما يتعلق بضرورة عودة العلاقات الطيبة بين البلدين في مستوياتها الدبلوماسية والسياسية والأمنية والاقتصادية.. لن أقول شعبا وادي النيل أو شعوب وادي النيل؛ لأنه حقا شعب واحد تجمعه أمور مشتركة كثيرة.. وسيحدثكم عن تلك المشتركات بتفاصيل جمة من زار أحد بلدان هذا الوادي الجميل..
سبق وأن كتبت في هذا الأمر أكثر من مرة، ولا بأس بإعادة التذكير بذلك؛ لأن الأمر على الرغم من بساطته في صميم العلاقة بين أبناء (شعب وادي النيل)، وهنا أعني أبناء مصر والسودان وإثيوبيا، هل صادفتم يوما أحد أبناء هذه البلاد لا يحب تناول مأكولات المطبخ المصري أو السوداني أو الإثيوبي؟
ما نتج عقب اجتماع أديس أبابا من اتفاق على إنشاء صندوق مشترك يخدم مصالح البلدان الثلاثة، كان كفيلا بتفسير سر قوة وصدق تلك التصريحات التي تهدف لخير شعب الوادي في المقام الأول، للمرة الأولى يكون القول مقرونا بالفعل فيما يتعلق بالعلاقات بين البلدان الثلاثة.. كم آمل ويأمل الجميع في ألا تنقطع دهشتنا لسنوات عديدة وأزمنة مديدة.
قد يكون ضربا من اعوجاج المنطق لو تصورنا أن أيا من السودانيين أو الإثيوبيين لا يجد ما يحبه في قائمة أطعمة المطبخ المصري الغني بعناصره ومكوناته والثقافات التي استند إليها في إنتاج تلك الأطعمة الشهية، لا سيما الأطباق التي يكون أساسها أنواعا مختلفة من الطيور، ولن يجد أحد أفضل من مصر مكانا ليتذوق فيه أطباق الحمام المشوي أو البط المحشي أو طواجن السمان على سبيل المثال، كذلك الأمر حين يكون الحديث عن المطبخ السوداني الذي يشتهر بتنوع منتجاته وتفرده واقترابه، بل امتزاجه بمطابخ الجارتين مصر وإثيوبيا؛ ولذلك لن يختلف أحد على تميز مذاقات المأكولات السودانية الغنية باللحوم، كيف لا والسودان سلة غذاء العالم العربي علميا - ونأمل أن يكون عمليا لو توفرت الإرادة السياسية لذلك – لذلك فلن تجد أحدا في مصر أو في إثيوبيا يختلف على روعة المأكولات السودانية التي تشبه ما لديه في بلده.
والمعلومة التي ربما تغيب عن البعض أن أجود أنواع اللحوم الحمراء في العالم - وبدون مجاملة - هي لحوم المواشي السودانية، والسبب جودة المراعي؛ لذلك فإن إحدى أشهر المأكولات السودانية الشهية جدا هي (الشيّة) - بتشديد الياء - أو اللحم المشوي على الفحم، وفي الغالب تكون من لحوم الضأن أو الخِراف، ولعل كثيرين أيضا لا يعرفون أن المطبخ الإثيوبي الذي يمتاز بمأكولاته سريعة التحضير يشترك في هذه الأكلة (الشية) مع المطبخ السوداني لنفس السبب الذي هو جودة المراعي، وطبيعي أن يحمل اسما مختلفا في إثيوبيا (التِبْسي) - بكسر التاء وتسكين الباء – يقدم هذا الطبق عند الإثيوبيين بطريقة فريدة على طبق مستدير واسع فوق قطعة رقيقة من الـ(إنجيرا) – وهو بديل الخبز أو الكِسْرة السودانية، ويزين بقليل من الخضراوات.
لابد أن رائحة الشواء تحوم حولكم الآن، وعذرا إن تسببت في إيقاظ عصافير بطونكم، لكنني آمل في أن تستيقظ عصافير العقول أيضا لتفيق من سباتها أو تنفض عنها عوالق الخلافات السياسية التي لم تأت بخير على بلداننا، ولعل أديس أبابا تكون فأل خير على الجميع بدلا من الاختلاف عليها أو بسببها، لتكون النتيجة أن يتمتع أبناء البلدان الثلاثة بخيرات التوافق والتكامل بدلا من الفرقة والاختلاف.
حين أعلن الرئيس المصري منذ أيام في أديس أبابا على هامش القمة الأفريقية أنه لا خلاف بين البلدان الثلاثة بعد أن التقى رئيس الوزراء الإثيوبي والرئيس السوداني، فوجئ الجميع بما قاله السيسي لوسائل الإعلام خاصة تلك الجملة التي قالها وحملت قدرا عاليا من الثقة والسعادة غير المسبوقة، على الرغم من أن ما كان طاغيا على المشهد حتى لحظة إعلانه ذلك هو استبعاد عودة العلاقات إلى طبيعتها بين البلدان الثلاثة على الأقل في المنظور القريب، كانت جملته التي أصابت الجميع بالدهشة (نحن نتحدث كدولة واحدة..)، وهذا يعزز ما ذهبت إليه في مطلع مقالي.
كم سعدت لسماع جملة كهذه، ولا أدري لماذا خالجني تفاؤل "عارم" للمرة الأولى لحظة سماع تصريحه، وقد كان التفاؤل أكثر بكثير من الاندهاش الذي ساد الجميع في البلدان الثلاثة.. لكن ما نتج عقب اجتماع أديس من اتفاق على إنشاء صندوق مشترك يخدم مصالح البلدان الثلاثة كان كفيلا بتفسير سر قوة وصدق تلك التصريحات التي تهدف لخير شعب الوادي في المقام الأول، للمرة الأولى يكون القول مقرونا بالفعل فيما يتعلق بالعلاقات بين البلدان الثلاثة.. كم آمل ويأمل الجميع في ألا تنقطع دهشتنا لسنوات عديدة وأزمنة مديدة.
برأيي إن لم تستغل هذه السانحة لإعادة العلاقات وتحسينها لتصل إلى أفضل أحوالها استنادا إلى هذه اللغة الجديدة، لغة التكامل في المصالح وتبادل المنافع، فسوف ترتهن العلاقات للظروف والتكهنات وتحركات ردود الأفعال التي أثبتت فشلها الذريع.. نريد ترجمة حقيقية على جميع المستويات الرسمية تتماشى مع الإرادة الشعبية الحقيقية لأبناء بلداننا، ولتكن البداية عبر القوة الناعمة التي تمتلك مفعول السحر، وجميعنا يعرف ما لهذه القوة من مفعول قوي، وهنا أناشد المعنيين بهذه القوة في مصر خصوصا، أن يفكروا جديا في توظيفها بطريقة تعود بالنفع الثقافي والمادي والسياسي على بلداننا.. والأفكار والمقترحات في هذا الإطار كثيرة لكنها تبحث عمن يتبناها ويترجمها.. فما قولكم؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة