في موروثنا الشعبي الكثير من الأمثال، التي تبدو صالحة لكل الأزمنة، فهي نتاج لمتابعة السلوك البشري
في موروثنا الشعبي الكثير من الأمثال، التي تبدو صالحة لكل الأزمنة، فهي نتاج لمتابعة السلوك البشري، والذي لا تتغيّر طبائعه مهما اختلفت الأزمنة وتباينت الأمكنة، فمثلنا القائل «العوّانة حتاتها بعيد» أو «العوّانة تحّت بعيد» يشير لشجرة النخيل عالية الطول، والتي لارتفاعها الكبير وميلانها في أغلب الأحوال يجعل ما يسقط من رُطبها يقع بعيداً، فلا ينتفع بما يسقط منها أهلها، ولكن أصحاب البيوت المجاورة!
تذكرت هذا المثل وأنا أقارن الحال وبين يديّ صحيفتان أميركيتان، الأولى US Today (يو إس توداي) وكانت تنشر تفاصيل لقاء لدونالد ترامب مع «جاك ما» الرئيس التنفيذي لموقع Alibaba (علي بابا) الصيني الشهير، الذي خرج بعده «ما» قائلاً: «إن الموقع سيعمل على خلق آلاف فرص العمل للأميركيين من خلال تسهيل إيجاد مشترين لمنتجات المزارعين ومنتجي الكحوليات للوصول إلى 300 مليون صيني من الطبقة المتوسطة التي تريد الحصول على منتجات أميركية فعلية»، بينما كانت صحيفة Wall Street Journal تنقل خبراً عن سيرجيو ماركيوني الرئيس التنفيذي لكرايزلر وفيات بأن الشركة ستستثمر مليار دولار أميركي لتوسعة مصنعيها في أوهايو ميتشيغان لتوفير أكثر من 2000 وظيفة للسوق المحلية، وذلك في سعي شركات ديترويت عاصمة صناعة السيارات بالعالم لتخفيف الضغط من إدارة ترامب، الذي كان صريحاً في تعنيفه لها وإصراره بأن يتم صناعة سيارات أكثر في البلاد بدلاً من خارجها، بحثاً عن رخص الأيدي العاملة، وزيادة هامش الأرباح للمساهمين أصحاب الجيوب الممتلئة ليزداد الأغنياء غنى والفقراء فقراً!
لا يبدو موقف ترامب غريباً، ولن يجرؤ أحد أن يتهمه بالتضييق على القطاع الخاص أو بأن الشركات ستضطر للخروج من السوق المحلية لأسواق مجاورة كما هي عادة الكثير من الشركات في أسواقنا الخليجية، التي تهوى سياسة «لي الذراع» و لسان حالها يقول «احمدوا ربّكم أني فاتح أعمالي عندكم»، ترامب كان قد ضجر من رؤية «الهوامير» يبحثون عن زيادة أرباحهم بالبحث عن وسائل إنتاج وأماكن عمل رخيصة للغاية، والتي تمخضت بمرور السنين عن انحسار فرص التوظيف على المواطنين الأميركيين من أجل أن يحصل على الوظيفة كيم جونغ في الصين وشندراتيل في الهند!
نسمع كثيراً من بعض الآسيويين واسعي الثراء ببلادنا الحبيبة بأنه أتى الإمارات، وهو لا يملك درهماً واحداً واليوم توجد تسعة أصفار على يمين الرقم الذي يملكه، وسيتغنّى كثيراً بشكر الحكومة
والبلد على ما وصل له، ما ينساه أكثرهم، حتى لا نظلم القلّة، التي يأتي عِرْفانها فِعلاً لا كلاماً منمقاً، أن هذه الخطابيات لا تملأ معدة و لا تحرّك ساكناً ولا تمثّل شكراً حقيقياً، فالدور الاجتماعي لشركاتهم ضعيف جداً، وفرص العمل التي توجد لديهم تشير بوصلتها لكل أقطار الدنيا إلا مواطني البلد!
في هذا الملف الذي يتعمد القطاع الخاص أن يجعله شائكاً تستفزك تلك المبررات لضعف توفير فرص التوظيف للمواطنين فيه، التي يجعلك تشعر بالمرارة أكثر خروجها من بعض رجال الأعمال الإماراتيين، لتغطية عدم جديتهم في تعيين المواطنين بأنّ المواطن كثير الطلبات أو غير جاد في العمل، أو لا تتناسب تخصصاته وطبيعة العمل، وبأنّ القطاع الخاص لا يزال هشاً، والتضييق عليه بملف تعيين المواطنين سيدفع هذه الشركات للرحيل!
لن تجرؤ شركة أجنبية أو أي من هؤلاء أنفسهم على فتح فرع لشركاتهم في دولة أوروبية أو أميركا أو ماليزيا أو سنغافورة ويشترطون معها أن يحضروا عمالة رخيصة من الهند وبنغلاديش، سيجبرون رغماً عنهم على تعيين مواطني تلك الدول وبمستويات الأجور نفسها والرواتب المتبعة في البلد، هم لن يجعلوا شخصاً يأكل من خير البلاد، ويستفيد من مزاياها وتسهيلاتها التجارية والتمويلية ويستغل اكتمال بنيتها التحتية وعلاقاتها البينية واتفاقياتها التجارية الاستثنائية مع العديد من الأسواق العالمية، ثم يرفض تعيين أبناء البلد بحجة أنهم سيطلبون رواتب عالية، وهو يريد «نفخ» حساباته البنكية الشخصية لأكبر قدر ممكن، الأمر الذي لا يتأتى إلا بأن يوافق له هذا البلد الذي «يشفط» من خيراته ليلاً ونهاراً بأن يأتي بعمالة أجنبية، وغالباً من بلاده الأصلية !.
قبل فترة نبّه سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان نائب رئيس مجلس الوزراء وزير شؤون الرئاسة في كلمة له عن التوطين إلى أن سوق العمل لدينا يستقبل ما معدله عشرة آلاف مواطن سنوياً وأن المؤسسات الحكومية لا يمكن أن تستوعب هذه الأعداد، ما يوجب أن يضطلع القطاع الخاص بمهمته ويتحمل مسؤولياته بتوفير فرص عمل، كان سموه يتحدث عن قطاع يعمل به أكثر من أربعة ملايين غير مواطن، لكنّه لم يستوعب سوى قرابة عشرين ألف مواطن، وهو رقم لا يذكر إطلاقاً لضآلته، إذ يُمثِّل نسبة مئوية قدرها 0.005، ولئن أشارت التقديرات إلى أنه ستتوفر قرابة 350 ألف وظيفة حتى عام 2020 إلا أن ذلك يحتاج إلى الكثير من الضوابط حتى لا تذهب الفرص كالعادة لغير أبنائنا و بناتنا!.
إن من أهم أولويات الدول المتقدمة لمحاربة الفقر والمشكلات الاجتماعية والأمنية المترتبة عليه هو ضمان وجود اقتصاد كامل التوظيف Full Employment Economy لأبناء البلد، وهذا لن يتأتى بمجهودات الحكومة فقط، فالمؤسسات الحكومية تشبّعت و ستدخل في مرحلة الترهل الإداري إنْ زاد خلق وظائف فيها دون حاجة فعلية لها، وفي كل العالم من يتولى مسؤولية توفير فرص العمل هو القطاع الخاص إلا لدينا، فأغلب من فيه يريد أن يأخذ وأن يستفيد من السوق المحلية ذات القوة الشرائية المرتفعة وأن يستغل التسهيلات المصرفية والقانونية، وإن تم تعيين مواطن يكون أول من يُضحّى به تحت تمثيليات إعادة الهيكلة وتقليل النفقات والقصص على ذلك كثيرة!
لا يعقل ألا يكون للمواطنين في بلادنا أولوية التوظيف في قطاعهم الخاص، ورغم ثقتنا بأن الحكومة الرشيدة تسعى لإيجاد حلول، لكننا نحتاج أن «يحس رجال الأعمال على دمهم»، فقد مللنا من كونهم «العوّانة» التي لا «تحّت» إلا بعيد فقط !
نقلا عن / البيان
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة