شهد المنطقة العربية منذ عقود ظاهرة صعود حركات الإسلام السياسي وجماعات القتال التي تمثل تحدّياً راديكالياً
شهد المنطقة العربية منذ عقود ظاهرة صعود حركات الإسلام السياسي وجماعات القتال التي تمثل تحدّياً راديكالياً، وتلجأ هذه الجماعات الأصولية إلى العنف لتحقيق مآربها تحت ستار تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وذروتها «الجهاد»، المبنية على القصاص والعقاب لمواجهة غير المسلمين من وجهة نظرهم، واستعمال القوة بمختلف أشكالها تشبُّهاً بالجهاد الذي خاضه المسلمون الأوائل.
وهذه الأيديولوجيا المتطرفة المرتدية قناع الدين، لاختراق الدول والشعوب، الدينُ منها براء، لأنّ تاريخ الدعوة الإسلامية التي جاء بها محمد، عليه الصلاة والسلام، يعلّمنا التسامح الديني بين الطوائف والجماعات، فالنبي لم يُكره اليهود ولا النصارى على قبول دينه، لأنهم أهل كتاب، بل أمر، عليه السلام، بإكرام علماء أهل الكتاب كالبطاركة والرهبان وخدمهم، وحرم قتلهم حتى في حال الحرب، ويشهد على ذلك الفيلسوف الألماني الشهير جوته في كتابه «أخلاق المسلمين وعاداتهم» الذي اعترف أنّ رسول الإسلام لم يتخذ موقفاً صعباً ضد الآخرين، فقد كان متسامحاً وتبعه أصحابه والمسلمون بعده، وكانت صفة التسامح إحدى الميزات الراقية للدين الإسلامي، أمام أصحاب الديانات الأخرى، كما أشار القس الألماني ميشون إلى أن الإسلام الذي أمر بالجهاد متسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، إذ أعفى البطاركة والرهبان وخدمهم من الضرائب، وحرم قتلهم لعكوفهم على العبادات، وهو نهج اتّبع في عهد الخلفاء الراشدين.
ويتضح لنا أنّ التعايش بين الطوائف والفصائل في الأمة الإسلامية أحد أهداف الدستور الإسلامي الذي وضعه النبي محمد صلوات ربي عليه عقب هجرته إلى المدينة، والذي ضمن تنظيم العلاقات بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى، في إطار التسامح الديني والحرية في الاعتقاد وممارسة الشعائر، عملاً بقوله تعالى: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي»، واليوم في ضوء التطورات العصرية والمستجدات والنوازل لابد من فتح باب الاجتهاد الفقهي لتخليص النصوص الدينية من الجمود الذي استغله خوارج العصر في خطاباتهم، وهذا ما دفع إلى الإسراع في تأسس مجلس «حكماء المسلمين» في يوليو عام (2014) برعاية دولة الإمارات العربية المتحدة، بناء على توصية في البيان الختامي لمنتدى «تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة»، برئاسة الشيخ الفاضل الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف وهو يشكّل هيئة دولية مستقلة تضم عدداً من كبار علماء المسلمين حول العالم، ممن يوصفون بالاعتدال.
ويرمي المجلس إلى تحقيق الأمن والتعايش المجتمعي في العالم الإسلامي، ومحاربة الطائفية، ومعالجة الصراعات الداخلية، وتعزيز روح التسامح والحوار والمنهج الوسطي، لتعزيز مناعة الأمة الإسلامية والتصدي لخطاب العنف والكراهية، وذلك من خلال إحياء دور العلماء واستثمار خبراتهم واجتهاداتهم في ترشيد حركة المجتمعات المسلمة، وتصحيح فهم المفاهيم الشرعية والخطاب الإسلامي، وإزالة أسباب الفرقة من خلال نصوص الشرع الداعية إلى السلم والتهدئة ونبذ الفتن والطائفية والعرقية والعنصرية.
إن مبادرة دولة الإمارات العربية بإطلاقها ورعايتها لمجلس «حكماء المسلمين» دعوة إلى الالتزام بالتسامح الديني وتوضيح القيم الحقيقية للإسلام، والأثر السلبي للحروب والعنف واللاتسامح والشحن الأيديولوجي والانغلاق في حياة الناس، وفي الوقت نفسه فتح الرؤية نحو أفق التعايش وترميم الصدع، وتجميع ما فرقته السياسة، على الرغم من الاختلاف الديني والثقافي وانتقاد تواصل الصراع جراء الأيديولوجيا الدينية المتعصبة مما يهدد السلام والاستقرار.
ونشير هنا إلى دور «مجلس حكماء المسلمين» في الإفادة من التجربة الإنسانية المتراكمة في إغناء المجال السياسي المعاصر، خاصة ما يتعلق بتداول الحكم والسلطة، لأن الفقه السياسي الوضعي لا يخلو من أيديولوجيا باعتبار أن أي فعل سياسي لأيّ مجتمع، يرتبط بالقيم الثقافية والاجتماعية التي تحكم أفراده، فبعض الأدبيات والمبادئ الواردة في هذا الفقه لا تتناقض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، فيما يخص الحكم والسلطة والأنظمة الانتخابية، ومن الضروري الاستعانة بهذا الكسب الإنساني، والانفتاح على قوانين الحياة في عملية تجديد ومراجعة للفقه السياسي بعيداً عن الانغلاق في التفكير الذي يجعل العقل يجترّ ذاته، ويعيش في سبات لا ينجلي.
* نقلاً عن " الاتحاد "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة