جنين لم تغادر قلب الإمارات. ولن يأتي مثل هذا اليوم، ما دام ظل الشيخ زايد وأبنائه، حيا في قلوب الناظرين.
هذه المدينة ومخيمها، أسطورة من أساطير فلسطين. عمرها يبلغ نحو 4600 عام. بناها الكنعانيون من قبل أن تكون هناك أديان تتحول إلى أسباب للصراع.
وهي عقدة جغرافيا، حتى لكأنها في القلب من كل ركن. تمتد سفوح جبل الكرمل من حيفا حتى شرق جنين، ويمتد ضلع "مدن المثلث" الأول من جنوب شرق الناصرة لينتهي في جوار مدينة جنين، ويمتد الضلع الثاني سهلا بمحاذاة جبال الجليل. ويطلق عليه اسم مرج ابن عامر. ما يجعل جنين رأس المثلث عند التقاء المرتفعات الممتدة من جبل الكرمل ومن جنوب شرق الناصرة. أما الضلع الثالث للمثلث، فيتصل من الجنوب باللد والرملة ويافا، حتى ساحل البحر الأبيض المتوسط.
ولكنها عقدة تاريخ أيضا. أسسها الكنعانيون في العام 2450 قبل الميلاد، وسموها "عين جانيم" وتعني الجنائن، وورد في عهد الرومان ذكرٌ لقرية منها باسم «جيناي» من قرى سَبَسْطية.
حاربت كل الغزاة. وكان النصر حليفها باستمرار. ربما لشيء في طبيعتها. وربما لأن مواريث الحياة ظلت تنتج من يدافع عنها ويبقيها محمولة على كتف الوجود.
في العام 1948 حاصرها الإسرائيليون، ودخلوها، ولكن آلافا من الجنود العراقيين والمقاتلين الفلسطينيين هبوا لنجدتها. فأصبحت رمزا، ل يزال هو الذي يحمي جنوب الضفة الغربية.
يقول المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس عن المعركة التي جرت بين يومي 3-6 يونيو: "كانت هزيمة مخجلة يندى لها الجبين. قوات الجيش الإسرائيلي كانت أكبر بكثير لكنها هزمت على يد عدد قليل من الجنود العراقيين والمحليين".
ويقول الجندي الإسرائيلي حاجي روبنشطاين، الذي شارك في معركة جنين: "لقد هربنا من ساحة المعركة كالأرانب".
ويقول المؤرخ الفلسطيني محمد عقل "إن النصر الذي أحرزه الجيش العراقي في معركة جنين منع تهجير سكان المثلث بأسره وحافظ على عروبته إلى يومنا هذا. فقد بقي المثلث نابلس -جنين- طولكرم في أيدي العرب وضم إلى المملكة الأردنية الهاشمية، وحتى القسم الذي سلمته المملكة إلى إسرائيل وفقًا لاتفاقية رودس بقي سكانه العرب في قراهم صامدين من كفر قاسم في الجنوب مرورًا بالطيبة والطيرة وقلنسوة ووادي عارة وأم الفحم حتى مقيبلة وذلك بفضل صمود الجيش العراقي والمناضلين الفلسطينيين".
دارت الأيام ليكون لجنين من ينقذها. ورث الإماراتيون البطولة هذه المرة.
في العام 2002 هاجمت إسرائيل جنين ومخيمها حتى دمرت أجزاء واسعة منه. وكان يمكن للنكبة الأولى أن تسفر عن نكبة جديدة، بتهجير عشرات الآلاف ممن سبق لهم أن نكبوا في أراضيهم ومزارعهم في حرب العام 1948.
الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، كان هو الذي وقف للمأساة وقفة الأخ والأب لنصرة جنين، فقرر بالتشاور مع الرئيس الراحل ياسر عرفات أن تتشكل لجنة طوارئ لتقدير كل الأضرار، ولإعادة بناء كل ما تهدم من المنازل والمدارس والمساجد والطرقات بدعم تم تقديمه لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين.
صمود المقاتلين في الدفاع عن جنين هزم الاحتلال. وهزمت الإماراتُ فلسفة الخراب والهدم التي جاء بها المحتلون. بقي أهل جنين في أرضهم، وعاد مخيمها ينبض بالحياة، ليكتب فصلا آخر من فصول التاريخ.
وعاد الإماراتيون ليرثوا البطولة في التضامن من جديد. الشيخ زايد لا يزال حيا في نفوس الطيبين. وله من مثله وارثون.
لم يعلن الإسرائيليون انسحابهم من جديد، بعد عدوانهم الأخير، حتى تقدمت الإمارات بقيادة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، لتهزم فلسفة الخراب والهدم التي حملتها قوات الاحتلال من جديد. فأعلن المسؤولون الذين نهضوا لإعادة البناء في العام 2002، أن الإمارات سوف تعود لتبني كل ما تهدم من منازل المدينة ومخيمها، وكل مدارسها ومساجدها.
المواقف البطولية ترث بعضها في الكثير من تجارب التاريخ. تتكرر كما لو أنها شيء محتوم.
جنين صارت من هذا الإرث. حتى ليمكن القول إن فلسفة الخراب والهدم لن تقوى عليها. ليس لأن أهلها سوف يواصلون الدفاع عن أرضهم ومنازلهم فحسب، بل لأن لها رفقة تضامن صار هو نفسه جزءا من فصول التاريخ.
فعلها العراقيون مرة، في الدفاع عن أرضها. وفعلتها الإمارات في معركة البقاء على كتف الوجود مرتين.
والتاريخ حكاية مواريث. ويا ليت الاحتلال يفهم أن سياسات القهر والقسوة والعنف، لن تُفلح. ولن يمكنها أن تهزم بلدةً لها من خلفها ناصرون، ورثوا الموقف النبيل ابنا عن أب، وحفيدا عن أب وجد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة