بشكل مُبالغ فيه تنتشر اليوم المنصات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي، بل إن "حياتنا" أصبحت مكشوفة في التعامل مع الآخر، من دون أدنى احترام للخصوصيات..
بل باتت مواقع "التواصل الاجتماعي" منصات كذلك لتناقل الأخبار والمعلومات والبيانات، حتى بتنا نعيش في عالم من التحديات المتعلقة بتكنولوجيا الاتصال، وهو أمر لربما يثير اليوم حفيظة الباحثين والمختصين، لا سيما في ظل الانفلات الذي يمكن أن تشهده هذه المنصات في حال عدم وجود نصوص قانونية تضبط أي ممارسات خارجة عن حدود النظام العام بعناصره الأربعة؛ الأمن العام، والصحة العامة، والأخلاق والآداب العامة، والسكينة العامة.
وبالطبع، إن "تنظيم وسائل الإعلام الجديد" قانونياً يعد من الأولويات التي توليها العديد من الدول اهتماماً كبيراً في العصر الرقمي، خاصة في ظل التحديات المتزايدة المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات والاتصال، كما أشرنا، والمتمثلة في سهولة الانتقال من دولة إلى أخرى عبر المنصات الرقمية والمواقع الإلكترونية وأنظمة الذكاء الاصطناعي.
وليسمح لي القارئ الكريم بأن أستعير قولاً أوردته في كتابي الجديد الذي يصدر قريباً عن دار البديل للنشر والتوزيع "الجرائم الإلكترونية - الأحكام الموضوعية لجرائم تقنية المعلومات والذكاء الاصطناعي"، والقول للكاتب الأمريكي الشهير رالف إليسون (Ralph Ellison) الذي اعتبر أن "الحاسوب سيجعل العالم شفافاً".
لقد كان إليسون يشير بهذه العبارة إلى فكرة أن التكنولوجيا، وبالتحديد الحاسوب، ستساعد في جعل العالم أكثر شفافية عبر تيسير الوصول إلى المعلومات، وتبادلها بين الأفراد والمجتمعات، وهو تصور يمكن أن يعكس فكرة أن "التكنولوجيا قد تسهم في زيادة تحقيق التواصل والفهم بين الناس"، وفي الحقيقة أن هذه العبارة، وإن كان يراد بها معنى إيجابي إلا أن لها الكثير من المعاني السلبية التي تختبئ خلفها، والتي يجب أن ننظر إليها بعين الناقد والباحث والمدقق.
وفعلاً، إن واحدة من التجارب المميزة في عالمنا العربي التي يجب الاستفادة منها فيما يخص التشريعات الخاصة بالبيئة الرقمية، هي "التجربة الإماراتية"؛ حيث تُعتبر دولة الإمارات مثالاً رائداً في مجال تنظيم الإعلام الرقمي، وقد وضعت لذلك استراتيجية شاملة أسهمت في تعزيز الأمن الرقمي وحماية المجتمع من المخاطر المرتبطة بانتشار المعلومات عبر الإنترنت؛ فأصدرت مثلاً العديد من القوانين التي ترتبط بمكافحة الجرائم المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات وتنص على حماية الأفراد والمؤسسات من الهجمات الإلكترونية، كما تفرض هذه القوانين عقوبات "صارمة" على بعض الجرائم الإلكترونية التي يمكن أن تزعزع بنيان أي مجتمع وتؤثر فيه مثل الابتزاز الإلكتروني، ونشر الأخبار الكاذبة، وانتهاك الخصوصية، فتميزت في هذا الإطار الذي حذت حذوه العديد من الدول العربية لاحقاً.
وليس هذا فحسب، بل أصدرت الإمارات المرسوم بقانون اتحادي في شأن تنظيم الإعلام رقم 55 لسنة 2023، الذي يهدف إلى "تنظيم كافة الأنشطة الإعلامية في الدولة بمختلف أنواعها وأشكالها بما يُعزز من مكانة الدولة إعلامياً ويُرسخ بيئة محفزة لنمو القطاع الإعلامي، وتطوير بيئة تشريعية واستثمارية إعلامية حديثة تواكب المتغيرات العالمية في قطاع الإعلام وتُعزز جاذبية القطاع الإعلامي في الدولة، وكذلك الارتقاء بالمحتوى الإعلامي في الدولة بما يُسهم في تطوير القطاع الإعلامي"، بحسب ما أوردته المادة 3 من القانون ذاته.
وإلى جانب ذلك كله، تأسيس مجلس الإمارات للإعلام الذي يهدف إلى تنسيق الجهود الإعلامية على المستويين الاتحادي والمحلي بالتنسيق مع الجهات الإعلامية الحكومية في الدولة ومواءمة السياسات الإعلامية بما يضمن إبراز الهوية الوطنية، واقتراح التشريعات والأنظمة والمعايير والأسس اللازمة لتنظيم وترخيص وسائل الإعلام والأنشطة الإعلامية بما فيها الإعلام والنشر الإلكتروني، فضلاً عن متابعة المحتوى الإعلامي لكل ما يُطبع ويُنشر ويُبث داخل الدولة بما في ذلك في المناطق الحرة، وتسجيل واعتماد الإعلاميين ومراسلي وسائل الإعلام الأجنبية في الدولة بما في ذلك في المناطق الحرة، وغيرها من التشريعات والأنظمة.
ومن هنا، فإن تجربة دولة الإمارات أسهمت في تعزيز الأمن الرقمي من جهة، وتنظيم وسائل الإعلام لا سيما الرقمي بشكل متميز ليمثل نموذجاً يحتذى به في المنطقة والعالم، حيث تمكنت الدولة من خلق توازن بين الرقابة الفعالة وحرية التعبير، مع التركيز على حماية المجتمع من التأثيرات السلبية للإعلام الرقمي، ومع استمرار الابتكارات التكنولوجية وتغير المشهد الإعلامي العالمي.
وبالطبع، فإن هذا النهج الشامل والمتجدد يضمن أن تظل دولة الإمارات في طليعة الدول التي تقدم حلولًا قانونية مبتكرة وفعالة لمواجهة التحديات المرتبطة بالإعلام الجديد، مما يعزز من مكانتها كدولة رائدة في مجال الأمن الرقمي وحماية حقوق الأفراد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة