شهدت الحرب الباردة، بكل ما حملته من تنافس أيديولوجي وعسكري بين المعسكرين الغربي والشرقي، توظيفًا متقنًا للخطاب الديني في صراعات كانت في جوهرها سياسية واقتصادية.
لم يكن الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979 مجرد حملة عسكرية لفرض النفوذ، بل تحوّل إلى ميدان مفتوح للصراع الأيديولوجي بين الشيوعية والرأسمالية، حيث وجد الجميع ضالته في استدعاء المقدس لتبرير تحركاته.
حينما اعتلى رونالد ريغان سدة الحكم في أمريكا، لم يكن مجرد سياسي جمهوري كلاسيكي، بل كان رمزًا لليمين المحافظ الذي أراد استعادة الروح الدينية لأمريكا، وفقًا لما وثقه الأكاديمي سكوت هيبارد في كتابه «الدين في البلاد العلمانية».
كان ريغان يُدرك أهمية اللعب على وتر التدين الأمريكي، فصرّح مرارًا بأن الإنجيل يحتوي على كل الحلول لأزمات البلاد، ليصنع بذلك سمة خطابية تربط بين الوطنية والإيمان، وهي ذات السمة التي وظفها لدعم المجاهدين الأفغان تحت لافتة الحرب المقدسة ضد الإلحاد الشيوعي.
في هذا السياق، أطلقت واشنطن عملية «الإعصار» لدعم المجاهدين بالسلاح والتدريب، بينما كان هؤلاء أنفسهم ينظرون إلى معركتهم من زاوية مختلفة، حيث اعتبروا أن القرآن الكريم هو الذي يمنحهم شرعية القتال ضد الغزو السوفياتي.
المفارقة أن الطرفين كانا يستندان إلى «نص مقدس» لتبرير الحرب، رغم أن دوافعهما لم تكن دينية بقدر ما كانت سياسية واقتصادية.
على الضفة الأخرى من الأطلسي، لم تكن مارغريت تاتشر أقل حنكة في استغلال الدين لخدمة مشروعها السياسي. في زيارتها إلى باكستان عام 1981، وصفت الاتحاد السوفياتي بـ«النظام الشيوعي الملحد»، وأثنت على المحاربين الأفغان الذين يرفضون الاحتلال القادم من دولة «بلا إله».
لم يكن هذا التعبير اعتباطيًا، فبريطانيا لم تعارض الاحتلال في ذاته، وإلا لكان عليها أن تعتذر عن تاريخها الاستعماري الطويل، لكنها ببساطة صاغت خطابًا دينيًا ينسجم مع عقيدة «المجاهدين» لتوظيفهم في معركة الهيمنة الغربية ضد المعسكر الشرقي.
لكن استدعاء الدين لم يكن حكرًا على الغرب وحده، بل كانت هناك أطراف أخرى وجدت في هذه الأجواء فرصة ذهبية لتعزيز حضورها السياسي والفكري، وعلى رأسها تيار الصحوة الإسلامية.
فمنذ سبعينيات القرن الماضي، ومع التقاء المصالح بين القوى الغربية وهذا التيار، أُتيحت لجماعة الإخوان مساحة غير مسبوقة للحركة، مستفيدة من دعم مالي وسياسي وإعلامي ضخم، كان يهدف إلى استخدام الإسلاميين في مواجهة المد الشيوعي.
هذه المساحة لم تقتصر على المجال الدعوي، بل كانت البيئة المثالية لنشوء التيارات الجهادية، حيث خرج من عباءة الصحوة الإسلامية تنظيمات مثل «القاعدة»، التي تأسست على أيدي الأفغان العرب، وحركة «حماس» التي نشأت كفرع فلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين، مستفيدة من نفس المناخ الأيديولوجي والسياسي الذي أتاح لها فرصة التمدد.
المفارقة أن القوى الغربية، التي دعمت الصحوة الإسلامية في حربها ضد الاتحاد السوفياتي، وجدت نفسها لاحقًا في صراع طويل للقضاء على التنظيمات التي ساهمت في إنتاجها، لكنها لم تستطع إنهاءها نهائيًا.
فاليوم، لا تزال أمريكا تخوض حروبًا مفتوحة ضد «القاعدة»، فيما تحاول عزل «حماس»، مما يعكس فشل التقديرات التي منحت هذا التيار فرصة ذهبية للتمدد. لقد تحولت الصحوة الإسلامية من مجرد أداة سياسية وظّفتها القوى الكبرى في صراعاتها، إلى لاعب مستقل يصوغ خطابًا شعبويًا يهيمن على الوعي السياسي في العالم العربي والإسلامي، مستفيدًا من إرث تلك المرحلة.
لم يكن استخدام الدين في الصراعات السياسية حكرًا على الغرب، فقد شهد اليمن نموذجًا صارخًا لذلك خلال حرب صيف 1994، حينما استُخدمت الفتاوى الدينية لأول مرة لتبرير غزو الجنوب.
صدرت حينها فتوى من علماء شمال اليمن تبيح اجتياح الجنوب تحت ذريعة محاربة «الملحدين الشيوعيين»، وهي نفس الحجة التي استخدمها الغرب في محاربة الاتحاد السوفياتي.
هذه الحرب جاءت في سياق تماهى مع الرؤية الأمريكية التي كانت تعتبر اليمن الجنوبي آخر معاقل الشيوعية في جنوب الشرق الأوسط، مما جعل واشنطن تغض الطرف عن الانتهاكات التي ارتكبتها القوات اليمنية الشمالية.
ما زاد من تعقيد المشهد أن هذه القوات لم تكن وحدها، بل كانت مدعومة بالمقاتلين العائدين من أفغانستان والشيشان والبوسنة والصومال، ممن تم استجلابهم تحت مظلة «الجهاد» لمحاربة الاشتراكيين. وبذلك تحوّل الجنوب اليمني إلى ساحة حرب بغطاء ديني، بينما كان الهدف الحقيقي هو القضاء على أي مشروع سياسي منافس.
إذا كان ريغان قد قدم نموذجًا للحرب المقدسة ضد الشيوعية، فإن هذا النموذج لم يختفِ مع انتهاء الحرب الباردة، بل وجدناه يتجدد في سياقات مختلفة. فمنذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، تحوّل الصراع بين واشنطن وطهران إلى معركة توظّف فيها الشعارات الدينية بشكل مكثف.
الإيرانيون استدعوا «الثأر الحسيني» في كل مواجهاتهم مع أمريكا، فيما استخدمت الأخيرة مصطلحات الحرب الصليبية بطريقة غير مباشرة، خاصة في خطابات جورج بوش الابن عقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول.
وفي أحدث صور هذا الصراع، برزت البروباغندا الدينية بعد اغتيال قاسم سليماني عام 2020، حيث نشر موقع المرشد الأعلى علي خامنئي صورة للحسين يحتضن سليماني، وكأن الأخير شهيد في معركة مقدسة.
بالتزامن مع ذلك، ظهرت صورة متداولة للمسيح يحتضن ترامب في المكتب البيضاوي، في محاولة لإضفاء صبغة دينية على المواجهة السياسية.
لم تكن معارك استدعاء الله في النزاعات الحديثة سوى امتداد لما شهده التاريخ من توظيف المقدس لخدمة المصالح السياسية. الفارق فقط أن الأدوات تغيرت، لكن المبدأ بقي على حاله.
فمنذ أن أدركت القوى الكبرى، سواء في الغرب أو الشرق، أن الدين يمكن أن يكون سلاحًا في حروبها، أصبح استدعاء الله جزءًا لا يتجزأ من معارك السياسة.
لكن التجربة أظهرت أن هذا التوظيف قد يتحول إلى سلاح يرتد على مستخدميه، كما حدث مع الغرب الذي دعم الصحوة الإسلامية ثم وجد نفسه في صراع طويل معها.
اليوم، لا تزال فرضية استدعاء الله في الصراعات قائمة، لأنها تمنح شرعية عاطفية لا يمكن تحقيقها بالسياسة وحدها.
السؤال الذي يبقى: هل نعيش فعلًا في عالم تحكمه الصراعات الدينية، أم أن الدين لم يكن سوى أداة استخدمها الساسة عبر العصور لإضفاء شرعية على ما هو في جوهره صراع على النفوذ والمصالح؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة