السكوت على سلوك أردوغان والاكتفاء ببيانات النقد التي لا تسندها قوة أمر قد لا يؤثر على سياسته.
تتسم تصريحات الرئيس التركي أردوغان بالإثارة والتحريض. فهي تدغدغ مشاعر الأتراك القومية وتُعيد إلى أذهانهم ذكريات الإمبراطورية العثمانية من ناحية، وتُكيل الاتهامات ضد الخصوم وتنذرهم بأسوأ العواقب وأوخمها من ناحية أخرى.
ورافق تلك التصريحات استمرار عمل سفن الاستكشاف والتنقيب التركية في مناطق بعضها مُتنازع عليها أو تابعة لليونان وقبرص، إضافة إلى إجراء البحرية التركية تدريبات عسكرية جنوب جزيرة كريت اليونانية، ثم مناورات عسكرية بالاشتراك مع الكيان السياسي المسمى جمهورية قبرص التركية والتي لا تعترف بها أي دولة في العالم سوى تركيا، وصدرت تقارير إعلامية تفيد بنقل أعداد من الدبابات التركية إلى مقربة من الحدود اليونانية.
ويمكن فهم هذه التصريحات والإجراءات في إطار مفهوم "سياسة حافة الهاوية" والتي ارتبطت باسم "جون فوستر دالاس" وزير الخارجية الأمريكية في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي. ووفقاً لهذه السياسة، فإن الدولة المنخرطة في صراعٍ ما تقوم بتصعيد الموقف ورفع درجة حرارته والتلويح بعناصر قوتها وتخويف خصومها مما يجبرهم على التراجع والانصياع لمطالبها. جوهر هذه السياسة هو الاقتراب من حافة الهاوية دون الوقوع فيها، وذلك لتحقيق الأهداف دون الدخول في حرب.
لم تكن ساحة شرق المتوسط هي أول مرة يختبر فيها أردوغان هذه السياسة، بل يمكن القول إنه اتبعها من قبل في أكثر من ساحة ما شجعه على التوسع في استخدامها.
ففي سوريا، احتلت تركيا مناطق في محافظات حلب، والرقة والحسكة في الشمال، وسيطرت الإدارة العسكرية التركية على أعداد كبيرة من المدن والبلدات في هذه المحافظات واتبعت فيها سياسة "تتريك" لأسماء الشوارع والميادين والمقررات الدراسية. ولا يوجد أي سند قانوني لهذا الاحتلال التركي لأراضي دولة مستقلة عضو في الأمم المتحدة.
وفي العراق، استباحت القوات التركية دخول الأراضي العراقية جواً وبراً والقيام بعمليات عسكرية بدعوى الهجوم على معاقل حزب العمال الكردستاني، وأقامت قاعدة عسكرية لها عام 2015 في منطقة بعشيقة شمال الموصل، والذي اعتبره العراق انتهاكاً لسيادته. وصرَّح مسؤولون أتراك في يونيو 2020 بأن تركيا أقامت 10 قواعد عسكرية في شمال العراق. وفي أغسطس، أغارت طائرة تركية على موقع عسكري داخل الحدود العراقيةـ وأعقب ذلك اتخاذ بغداد موقفاً أكثر حزماً في رفض التدخل العسكري التركي، وقامت بإلغاء زيارة مرتقبة لوزير الدفاع التركي إلى العراق.
وفي ليبيا، وقَّعت تركيا مع حكومة السراج اتفاقية للتعاون العسكري في نوفمبر 2019، وبموجبها أرسلت الآلاف من المرتزقة أعضاء الميليشيات الإرهابية في سوريا ومئات الضباط والمستشارين الأتراك، وأقامت قواعد عسكرية خاضعة تماماً للضباط الأتراك، وذلك بالمخالفة لكل قرارات مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي. ووقَّعت مذكرة تفاهم بشأن ترسيم للحدود البحرية مع حكومة السراج تتعارض مع القواعد التي أرستها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وتتجاهل وجود عديد من الجزر اليونانية في البحر المتوسط معتبرة إياها كأن لم تكن.
وهناك أمثلة أخرى تؤكد هذا التوجه الأردوغاني إلى التصعيد اعتقاداً منه أنه يستطيع احتواء ردود الفعل الرافضة طالما ظلت على مستوى الأقوال والتصريحات، أما عندما يواجه بردود فعل قوية على الأرض فإنه يعيد النظر في حساباته. يدل على ذلك التغير الذي حدث بعد إعلان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن أن هناك خطاً أحمر في ليبيا لا يمكن تجاوزه، والذي أعقبه تعزيز الوجود العسكري المصري في منطقة الحدود وإجراء مناورات عسكرية كبيرة. تغير الموقف، ولم تعد الميليشيات المدعومة من تركيا تتحدث عن اقتحام مدينة مُصراته.
ومغزى هذا أن السكوت على سلوك أردوغان والاكتفاء ببيانات النقد التي لا تسندها قوة أمر قد لا يؤثر على سياسته. أما عندما يجد أمامه إرادة سياسية وقدرة عسكرية مناوئة، فإن موقفه يتغير ويتراجع عن حافة الهاوية التي اقترب منها.
يتَّبع أردوغان سياسة حافة الهاوية لرفع شعبيته المتراجعة بسبب الأزمة الاقتصادية التي يشعر بها المواطن التركي والانخفاض المستمر في سعر الليرة، والعزلة الإقليمية والدولية التي تعيشها تركيا. ولكنه من الأرجح لا يريد الانخراط في حرب مع قوة أوروبية لا يستطيع مجابهتها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة