قانون البحار هو وحده الذي يوفر الطرق الفنية التي تكفل عدالة تعيين المناطق الاقتصادية الخالصة للدول.
عالم ما بعد "الكورونا" يشهد يقظة لصراعات ساد الظن أنها قد ولت منذ زمن طويل بتأثير "العولمة" والتقدم البشري وربما أيضا فيما يتعلق بالدول بتبادل المصالح الكثيرة. تاريخيا كان معلوما أن الحدود الصينية الهندية ليست على أحسن حال، وقبل ستة عقود تقريبا كانت هناك حرب بين البلدين، ولكن الصراع انفرج عن "التعايش السلمي" الذي نفع كثيرا في نهضة البلدين الاقتصادية، ولكن الحدود ظلت ملتهبة، وقضية التيبت لا تنفرج مرة حتى تتعقد مرات. ما حدث أنها انفجرت في اشتباك قرب الحدود، والآن جاري تقريب وجهات النظر. ولكن موضوعنا هو انفجار صدام آخر، مرة أخرى بين جيران أيضا – تركيا واليونان – وبينهما تاريخ عميق من الصراعات التي استمرت لقرون. في التاريخ القديم جدا لم تكن تركيا على الحال الذي نعرفه الآن، كانت في الحقيقة مشاعا قبليا يقع بين "الفرس" من ناحية، و"الهلينيين" اليونانيين من ناحية أخرى. وفي "الإلياذة" لهومر فإن أسطورة "طروادة" جرت في تركيا الحالية، ولا تزال "تروي Troy" جزءا من التراث التركي القديم الذي وقعت فيه منطقة غرب تركيا ضمن المجال الساسي والهيمنة الإغريقية قبل وبعد غزوات الاسكندر الأكبر.
هذا الميراث التاريخي القديم سرعان ما أخذ شكلا آخر مع الإمبراطورية الرومانية التي بقي الغرب التركي جزءا منها، ومع انقسامها أصبح ضمن ممتلكات الإمبراطورية البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية حتى قرب نهاية القرن الخامس عشر حينما أخذ التاريخ دورة أخرى. هذه المرة جاء الأتراك تحت الراية العثمانية ليس فقط عندما دانت لهم العاصمة وبات اسمها "إسطنبول"، وإنما تغيرت كاتدرائيتها المسيحية إلى جامع "أيا صوفيا" الإسلامي، وتدريجيا امتدت الإمبراطورية العثمانية حتى وصلت إلى أسوار فيينا وسط أوروبا شاملة شرق أوروبا كلها، بما فيها ما بات معروفا اليوم باسم "اليونان" والتي استقلت بعد خمسة قرون من الاحتلال العثماني في عام ١٨٢١. وبعد الحرب العالمية الأولى وتفكيك الإمبراطورية العثمانية، كان على ما تبقى منها أن تحارب اليونان التي جاءت من أجل تحرير جزء من تاريخها القديم. وقبل فترة قصيرة احتفلت تركيا بالذكرى الثامنة والتسعين لمعركة "سميرنا Smyrna" عام ١٩٢٢ الحاسمة في استقلال الدولة التركية.
مضى على الصراع التركي اليوناني أكثر من ألفي عام، وتبادل الطرفان الهيمنة والسيطرة، وتنازعا الكثير من الأصول التاريخية للثقافة والطعام، وتبادلا كراهية عميقة بالشكل الشائع في الصراعات الدولية. ولكن التاريخ لا يبقى على حاله، وحينما هلت الحرب الباردة على القارة الأوروبية فإن مواجهة الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو في شرق أوروبا فرضت مزاملة تركيا واليونان في حلف الأطلنطي. وعندما انتهت الحرب الباردة فإن توسع الاتحاد الأوروبي شرقا دفع تركيا لكي تطرق أبواب بروكسل من أجل مفاوضات العضوية الدائمة؛ ولفترة طويلة ظلت اليونان تعترض على القبول بذلك؛ لكن الاتحاد الأوروبي منح أنقرة نوعا من الرابطة التفضيلية التي تقترب من الاتحاد الجمركي، الذي هو أكبر من منطقة التجارة الحرة، وأقل من العضوية الكاملة. استفادت تركيا كثيرا من الاتحاد، وساهم ذلك في نهضتها الاقتصادية في مطلع الألفية الثالثة، ولكن داخلها تغير في الاتجاه المعاكس.
كان وصول حزب العدالة والتنمية التركي إلى الحكم بقيادة عبد الله جول ملائما لدعم العلاقات الأوروبية التركية تحت رداء "العثمانية الجديدة" التي تريد أن تكون صراعاتها في المنطقة كلها "صفرا". ولكن تولي طيب رجب أردوغان للقيادة وتركيزها بين أصابعه جعل "العثمانية الجديدة" حلما إمبراطوريا ممتدا من وسط آسيا إلى البلقان، ومن بحر مرمرة إلى جنوب البحر المتوسط. وفي الحالتين كان الصدام مع اليونان جزءا من قائمة أعمال وكراهية تاريخية عززها فكر الإخوان المسلمين التي أعادت صياغة الصراع في استقطاب ديني.
يبدو كل ما سبق قصة تاريخية طويلة، ولكنها كانت ضرورية لفهم الصدام التركي اليوناني لأنها جعلت الخلاف مغلفا بذكريات تاريخية مريرة، لم تصبغ العلاقات بين تركيا واليونان فقط، وإنما مجمل العلاقات بين دول المنطقة الدائرة حول البحر الأبيض المتوسط والتي ظهر فيها أن ترجمة "العثمانية الجديدة" تعني اندفاع التواجد العسكري التركي إلى العراق وسوريا وليبيا وأشكال مختلفة من "البلطجة" البحرية في شرق البحر المتوسط. وفي الشكل يدور الخلاف بين البلدين حول الحيازات البحرية لتركيا واليونان وقبرص حيث تطالب كل هذه الدول بقطعة من مخزون الغاز والنفط الضخم في المنطقة. وتحول الخلاف إلى مواجهة عسكرية عندما اصطدمت سفن حربية تركية ويونانية في بداية أغسطس المنصرم. وأرسلت تركيا سفينة بحث برفقة سفن حربية وغطاء جوي في خطوة تنتهك السيادة اليونانية على جزرها تبعا للثقافة السياسية الحديثة والقانون الدولي. والخلاف في حقيقته له عدة وجوه، أولها تاريخي كما أسلفنا حيث الكراهية والمكونات العدوانية التركية الجديدة. وثانيها له طبيعة "جيو سياسية" حيث تم ترسيم الحدود اليونانية وفقا لاتفاقية لوزان عام ١٩٢٣، والتي جعلت الحدود البحرية بين تركيا واليونان بالغة الدقة والحساسية نظرا لتواجد الجزر اليونانية بالقرب من الساحل التركي من ناحية؛ وقيام تركيا باحتلال الجزء الشمالي الشرقي للجزيرة القبرصية وإعلان دولة تركية من القبارصة الأتراك الذين لا يعترف بهم أحد سوى تركيا. وثالثها أن له طبيعة استراتيجية على ضوء ما بات مفضوحا من نظرة تركية إقليمية واسعة تحتاج بشدة إلى الغاز والنفط لكي توفر الطاقة لدولة إمبراطورية. وهكذا رابعا بات موضوع الغاز والطاقة في عمومها محفزا للغرائز الاستعمارية التركية في مناطق الجوار القريب في العراق وسوريا وحتى البعيد في ليبيا.
المعضلة أنه في المركز من الأبعاد الأربعة للدفع التركي باتجاه شرق البحر المتوسط أن تركيا لم توقع على اتفاقية قانون البحار التي جرى التوقيع عليها دوليا عام ١٩٨٢، وباتت معاهدة دولية في عام ١٩٩٤، بأعضائها ١٧٨ دولة. هذه الاتفاقية هي ما جرى عليه ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص ( ومصر والسعودية في البحر الأحمر أيضا) ومصر واليونان، واليونان وإيطاليا من ثم جرى تعيين "المناطق الاقتصادية" للدول المتشاطئة في مياه دولية واحدة لشرق البحر المتوسط. تركيا من ناحيتها لا تريد ترسيم الحدود البحرية وإنما تريد ثروات النفط والغاز دونا عن الدول المطلة على البحر المتوسط؛ وفي الطريق يتم الاعتراف بصورة أو بأخرى بقبرص التركية. كلا المطلبين لا يمكن إلا رفضهما من قبل الدول المطلة على البحر، لأن قانون البحار هو وحده الذي يوفر الطرق الفنية التي تكفل عدالة تعيين المناطق الاقتصادية الخالصة للدول وبدون ذلك فإنه لا يوجد تبرير لحصول تركيا على نصيب من طاقة شرق المتوسط. ولكن تركيا ترى نفسها قوة إقليمية بات فيها السيطرة على مصادر الطاقة في البحر الأبيض المتوسط جزءًا من أيديولوجية وطنية بعنوان "الوطن الأزرق"، وهو مصطلح يرمز إلى استراتيجيات التوسع البحري والبري لتركيا.
هل يؤدي ذلك إلى انفجار قريب من الصعب التنبؤ به، ولكن ألمانيا تحاول الوساطة، وكذلك حلف الأطلنطي؛ ولكن نقاط الاحتكاك في المنطقة كلها منذرة، كما هو حال الصراعات التاريخية المعروفة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة